-A +A
قراءة: علي الرباعي
لم يكن يتوقع العضو المنتدب لتهامة محمد سعيد طيب إثر خروجه منها عام 1999، أن يرى بأم عينيه إصدارات تهامة التي شقي وأشقى فريق عمله حتى ترى النور تباع في حراج الصواريخ بالكيلو، ويؤكد «أبو الشيماء» لـ«عكاظ»، أن ذلك المنظر أحزنه كثيراً ما يعني أن منجز ربع قرن لم يجد من العناية والاهتمام ما يحقق التراكمية ويصل المهمة النوعية التي تبنتها الشركة.

أسهمت شركة (تهامة للنشر والمكتبات 1979) في حفظ ذاكرة المجتمع السعودي، وحمايتها من التشويش، والشائعات، من خلال ثقافة تدوين ونشر وتوزيع مشاريع فكرية وثقافية واقتصادية واجتماعية وفنية، وطرح ملفات موسعة عن التنمية والإبداع والتحولات الاختيارية والقسرية للمجتمع بحكم معطيات التقنية والعلم طيلة ربع قرن من الزمان، فمدت جسور الوصل بين شغف القراء ونتاج الرموز (حمزة شحاتة، محمد علي مغربي، طاهر زمخشري، محمد حسين زيدان، أحمد السباعي، محمد حسن عواد، أحمد قنديل، حمزة بوقري، غازي القصيبي، فايز بدر، عبدالكريم الجهيمان، حمد الجاسر) إضافة إلى الكتاب الجامعي، والكتاب العربي اليمني، وكتاب المرأة، ورسائل جامعية، ومطبوعات تهامة، وكتاب تهامة للأطفال، والإصدارات الخاصة والكتب الإعلامية.


وإذا كان من شهود الحق والعدل من تحسب شهادته بشهادتين، فقد كان منهم الراحل الكبير غازي القصيبي عندما قال يوماً للعضو المنتدب لتهامة محمد سعيد طيب «ما قمتَ به في مجال نشر الأدب السعودي عمل لن ينساه التاريخ الأدبي في المملكة، ولن ينساه الأدباء والشعراء، ولن ينساه القصيبي، ولن تنساه تهامة» ذلك أن «أبو الشيماء» عريق الصلة والجذور بالتنوير أخذ على كاهله أعباء الفتح المبين للقرن الـ15 كما وصفها المحقق العراقي علي جواد الطاهر، وعدها الشاعر الراحل محمد حسن فقي صرحاً بألف قامة حين ألقى قصيدته الاحتفالية ومنها «وتعجبتُ حين أبصرتُ صرحاً، شاهقاً في الذرى يُسمى تهامة، أنت أنجدتَ أيها الصرحُ لم تتهم وصعّدت مسرعاً ألف قامة».

وبحكم ما لحق بدور النشر والتوزيع من فاقة أفقدتها الأناقة، وما هبّ على تهامة من رياح التغيير اضطرتها إلى مجابهة التحديات وتوقف النشر والتحول بعد ربع قرن إلى شركة مساهمة معنية بنشاطات أخرى، ما أطفأ الوهج للإصدارات التي كانت شاغلة الصحافة وحديث الناس، وبحكم وثيق صلته بالسرد، وعلاقته الوطيدة بالصحافة الاستقصائية، تدارك الناشر محمد عبدالله المنقري ما يمكن تداركه، وتفادى احتراق الرغيف الثقافي النادر بتوثيق ما أمكن من سيرة ومسيرة عطرة في كتاب، فتبنى من خلال «سطور» إصدار، «تهامة رغيف ثقافي نادر» مزيناً حيثيات تأليف هذا الإصدار بشجن مثقف يتساءل «لماذا سارعت شمس تهامة بالأفول، وكيف انطفأ الوهج في غمرة النور والعطاء؟»، وأضاف في المقدمة، «كأن شيئاً لم يكن، أو كأنما قوة خارقة تآمرت على تهامة وأودت بكل المنجزات المتمثلة في رعاية الثقافة».

ويعزو المنقري في كتابه الفضل لتهامة في تعزيز النشر والطباعة بدقة الإخراج، وندرة الأخطاء الطباعية، واختيار أجود النماذج الطباعية وأغلاها كلفة، واعتماد الورق الأحدث، وتركين التذييل والحواشي، ووضع قوائم المصادر والمراجع، وإضافة الكشافات والفهارس، ومراعاة قواعد الاقتباسات، والإشارات، مشيراً إلى أن صناعة الكتاب اختلفت منذ أنشأت تهامة (إدارة النشر) عام 1399هـ، ومعها (الإدارة المركزية للمكتبات) لتصدر باكورة أعمالها (الجبل الذي صار سهلاً) للراحل أحمد قنديل.

ويؤكد المنقري في إنصافه لشركة تهامة الناشرة أنها سدت العجز وجانباً من النقص الذي تعاني منه المكتبة السعودية، خصوصاً في الإصدارات الوثائقية، والمنشورات الاقتصادية، لافتاً إلى تبنيها الدورية تزامناً مع أحداث ومناسبات تستدعي تغطيات وتوثيق، فصدر «دليل الشخصيات العامة في المملكة»، و«دليل تهامة الاقتصادي»، و«ملخص عن التنمية الخمسية الثانية»، صدر باللغتين العربية والإنجليزية، وكتاب «تعليمات الموانئ في المملكة».

وكشف الكتاب عن توجه تهامة لأداء رسالة معرفية وتوعوية جماهيرية تبدأ من المجتمع ولا تستعلي عليه، فكان مشروعها الأول «مسابقة تهامة الثقافية» وتضمنت المسابقة رسالة عميقة، تفيد بأن الغايات الاقتصادية، والسعي نحو جني الأرباح، وخدمة أهداف الشركات لا يعفيها من الالتزام بدور ثقافي، تفتقر إليه البلاد، ولم تؤده مؤسسات كبرى فكان الفضل لإدارة مثقفة بنت منارة يستدل بها ولها السائرون والسراة.

ويرصد المنقري الاعتبارات التي انطلقت منها تهامة في النشر والطباعة والتوزيع، واضطلاعها بأعمال طموحة ورائدة، منها أن السعودية تنتمي لأمة عربية عريقة، وحضارية، تمتلك رصيداً ضخماً من التراث الإسلامي، في مختلف المجالات ما يلزم تحقيق وتوثيق ونشر وتداول المنجز المعرفي والفكري لوطننا، إضافة إلى عناية تهامة بالمواءمة بين التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية ما اقتضى إسهامها في بناء شخصية المواطن السعودي من خلال الكتاب، كما أنها استوعبت إشكالية النشر المعتمد على مبادرات فردية.

وبما أنه لا يمكن التعامل مع الواقع بوعي دون تعقب راصد لحركة المجتمع الثقافية تحديداً باعتبارها أم التحولات، ومنافذ إشعاعها، حرص «أبو عبدالله» بمساعدة ابنه «عبدالله» على تدارك الرغيف التهامي النادر قبل أن يجده عُرضة للمزايدات في حراج الصواريخ.