إبراهيم نصرالله
إبراهيم نصرالله




إبراهيم نصرالله
إبراهيم نصرالله




رواية براري الحمى
رواية براري الحمى




إحدى روايات نصرالله.
إحدى روايات نصرالله.




مع طلابه في محافظة العرضيات في السبعينيات الميلادية.
مع طلابه في محافظة العرضيات في السبعينيات الميلادية.
-A +A
حاوره: علي الرباعي Al_ARobai@

المديح أسوأ غرض في مسيرة الشعر العربي

فوزي بـ«البوكر» تقدير لرواية تمرَّدت

في العام المقبل ستصدر سيرة روائية عن حياتي

أصبت بالسل والملاريا ونجوت

بدأت بكتابة الشعر والرواية في الوقت نفسه

كان حلمي الأكبر أن أدرس الموسيقى

«براري الحُمّى» تجاوزت الـ40 وما زالت شابة

ليست لدي وسادة مريحة أنام عليها باطمئنان

أفتخرُ بأن السعودي هو قارئ أعمالي الأول

الحوار مع الروائي الأردني إبراهيم نصرالله لا يخلو من إغراء بالسؤال الطويل والإجابات العريضة. فالسارد الحائز على البوكر لديه الكثير مما يمكن أن يقال، وإن ظلت بعض المواضيع والقضايا شائكة. عندما انتقل في سبعينات القرن الميلادي الماضي من مخيم الوحدات الفلسطيني إلى العرضيات جنوب غرب المملكة ليكون معلماً وجهته إدارة تعليم القنفذة إلى فضاء فتح ذهنه على إمكانية بلورة الإمكانات وتطويرها، فالمكان شحيح بما يسلي القلب عامر بإنسان يعاني الفاتكين (السل والملاريا) فكانت القراءة لمدة عامين، والتصوير، والإصغاء للموسيقى ليتشكل وجدان ضيفنا وسط جبال وأودية صالحت بين روح المثقف وبراءة الطفولة وقسوة الظروف ما عزز دور فارس الخيول البيضاء في بناء وعي أجيال وتطوير مهاراتهم بعيداً عن الاعتبارات والشعارات التي تبناها بعض معلمينا العرب في تلك الحقبة. أنجز ما يزيد على 15 ديواناً شعرياً و22 روايةً من ضمنها مشروعه الروائي (الملهاة الفلسطينية) المكون من 12 رواية تغطي أكثر من 250 عاماً من تاريخ فلسطين الحديث. ترجمت له خمس روايات وديوان شعر إلى الإنجليزية، و4 كتب إلى الإيطالية. كما ترجمت له رواية إلى الدنماركية وأخرى للتركية والفارسية. ونصرالله، رسام ومصور، أقام 4 معارض فردية في التصوير، نال 9 جوائز، منها البوكر عام 2018 عن روايته «حرب الكلب الثانية»، وجائزة سلطان العويس المرموقة للشعر العربي عام 1997؛ واختيرت روايته «براري الحُمّى» من قبل صحيفة الغارديان البريطانية كواحدة من أهم 10 روايات كتبها عرب أو أجانب عن العالم العربي. ونال جائزة القدس للثقافة والإبداع التي تمنح لأول مرة تقديرا لأعماله الأدبية، كما نشرت 10 كتب نقدية عن تجربته الأدبية، وتناولت أعماله عشرات رسائل الدكتوراه والماجستير في العالم.

في يناير 2014 تطوع للصعود إلى قمة كليمنجارو، بمرافقة أطفال فلسطينيين فقدوا سيقانهم بسبب قوات الاحتلال الصهيونية، ووصلوا القمة، وكتب رواية عن هذه التجربة بعنوان (أرواح كليمنجارو) 2015، وقد فازت هذه الرواية بجائزة كتارا للرواية العربية عام 2016. وفي العام 2020، فاز بجائزة كتارا للمرة الثانية، ليكون أول كاتب عربي يفوز بها عن (الفئة الكبرى)، فئة الروايات المنشورة، عن روايته: ثلاثية الأجراس: «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد»، وإلى نص الحوار:

• ماذا تبقّى من براري الحُمى؟

•• بقي منها كل شيء. منذ صدورها لا أحس بأنها خلفي، إنها أمامي، وحين أنسى ذلك في غمرة انهماكي بأعمال أخرى، تأتي طبعاتها المتتالية وترجمة لها إلى هذه اللغة أو تلك، وردود الفعل حولها، وكذلك الدراسات التي تتناولها، لتذكرني بمكانة هذه الطفلة الغالية عليّ.

• ما مدى إنصاف براري الحمى لإنسان وبيئة الرواية؟

•• لقد كتبت عن أشياء عشتها، وبيئة تأثرت بكل ما فيها، كثرٌ اليوم، لا يعرفون كيف كانت تلك البيئة وطبيعة الحياة السائدة فيها، لذا يتحدثون عنها كما يعرفونها اليوم، ويقارنونها بالرواية، وهذا أمر أستغربه. حين كنت هناك، لمدة عامين، كنت من أهل المنطقة، وليس «وافدا» وهذه كلمة لا أحبها؛ كنت أعطي أجمل ما لدي وكأنني أُعلِّمُ في «مخيم الوحدات» الذي أتيت منه. وفوق ذلك، ومثل غيري، أعطي عمري الذي لا شيء يوازيه مهما كان كبيرا؛ الآن يحسّ المرء كم تعني له سنتان من عمره، بعد أن شابَ. ليست الكتابة إنصافا، أو غير إنصاف، هي جوهر الحياة، وتعدد أطيافها، المديح أسوأ غرض في مسيرة الشعر العربي. كتبتُ عن القنفذة، كما كتبت في ما بعد عن فلسطين، مع اختلاف الحالتين، هناك المعاناة، وهناك الطيبون وهنالك عكسهم، هناك الشخصيات المضيئة وهناك المعتمة، وهناك الحياة القاسية في القنفذة تلك الأيام التي لا تقل قسوة، عن حياتي في مخيم الوحدات، بل لعلها تفوقها قسوة بمرضين كريهين هما السّلّ، والملاريا التي أصبت بها، وكدت أفارق الحياة بسببها، وبسببها مات تلاميذ لي وزملاء في التدريس، سعوديون وعرب. وفي النهاية، لا أظننا نستطيع أن نقول إن الحياة عادلة في أيّ مكان.

• ألا يشدّك الحنين لزيارة «ثلوث عمارة»؟

•• يشدني كثيرا، بل وأتمناه. سأقول لك شيئا لم أقله من قبل في أي حوار معي، وهو أن أكثر الأماكن التي عشت فيها تأثيرا في حياتي هي: المخيم، القنفذة، ومدينة عمّان. هذه لها مكانة خاصة، وأضيف أيضا تلك المدن والقرى الفلسطينية التي أتيح لي أن أعيد بناءها من جديد، بخاصة التي تم تدميرها، أو محوها، وكذلك تلك التي بنيتها مع أبطال رواياتي ورممتها، مثل طبرية وعكا والناصرة، وحيفا القديمة، وحيفا الجديدة. من يعتقد أن الكتابة مهنة أو موهبة، وحسب، مخطئ، لأن الكتابة حياة، حياة حقيقية، وبعد أن عشت ما عشت في الكتابة والحياة أحسّ الآن أنني من مواليد نهايات القرن السابع عشر، وهو أقدم حقبة عشتها في كتابتي، في رواية «قناديل ملك الجليل».

• ألم يحفظ لك المكان الذي درّست به في السبعينات من قرن ماضٍ صداقات وعلاقات إنسانية؟

•• بين حين وحين تصلني رسالة من طالب درّسته، وأحيانا مع صورة فوتوغرافية، وأفرح بهذا كثيرا، أفرح أن يتذكرك أحد طلابك بكل هذا الحب. أظن أن هذا العدد القليل من المراسلات، سببه أيضا الزمن، فقد كنا بحاجة لربع قرن على الأقل، حتى يعرف الواحد منا، أين أصبح الآخر، بسبب عدم وجود وسائل اتصال كما اليوم، لكن من الضروري أن أشير إلى أن التجربة نفسها لم تغادرني أبدا، وهكذا حضرت في رواية «براري الحُمّى» و«السيرة الطائرة» و«مجرد 2 فقط» وفي سيرة روائية عن حياتي أظنها ستصدر في العام المقبل.

• هل يعد العمل الأول فألاً حسناً على الكاتب؟

•• يكون ذلك في بعض الحالات، وليس كلها، ربما من حُسن حظّي أن العملين اللذين كنت مسكونا بهما، وأعمل عليهما في الوقت نفسه، قد وجدا استقبالا مُحبّا ومثيرًا، وأعني «براري الحُمّى»، التي عثرتُ على كتابتها الأولى مؤخرا واكتشفت أنها كانت في آذار 1979، في الوقت الذي كنت أكتب قصائد ديواني «الخيول على مشارف المدينة» الذي صدر عام 1980، لكن نشر البراري تأخّر، لا لشيء إلا لأن الاحتفاء بالشعر كان في المقدمة، وحين فاز بجائزة أفضل ديوان شعر صدر في الأردن في ذلك العام، تأخر صدور براري الحُمّى ثانية، فلم يكن الزمن زمان الرواية، بل زمن الشعر.

• ما شرط المشروع الإبداعي للكاتب بحكم التجربة والمنجز؟

•• لا أعرف إن كنت فهمت السؤال جيدا، ولكنني أرى أن المسألة أكثر تعقيدا من أن تختصر في كلمات، فالثقافة ضرورية ولكنها لا تكفي، والتجربة ضرورية ولكنها لا تكفي، والإخلاص للكتابة ضروري ولكنه لا يكفي، والموهبة ضرورية، ولكنها لا تكفي، والتضحية من أجل الإبداع كذلك، ولكنها لا تكفي؛ ثمة شيء ما في النهاية، هو الأصالة، من مكوناته كل هذه الأمور، لكنها أيضا ليست هو.

• كيف نجحت في المزاوجة بين الشعر والسرد أما من غيرة أو ميل لأحدهما على حساب الآخر؟

•• لا مكان للغيرة، ربما هناك فسحة للسعادة، ببساطة لأنني بدأت بكتابة الشعر والرواية في الوقت نفسه، في نهايات المرحلة الإعدادية والثانوية، التي كتبتُ فيها روايتين، كل منهما تتكون من 80 صفحة، ما زالتا لديّ، ولذا لم أحسّ لحظة بأنني شاعر، أو روائي، كنت دائما هما معا، لكن الأمر تطوّر بالتأكيد، ولعل كل منهما أحسّ في النهاية أنه لن ينتصر على أخيه، فتصالحا فيّ، وهكذا راح كل منهما يساعد الآخر، فالسّرد ساعد شعري كثيرا،كما ساعد الشعر سردي؛ لكن ربما كان علي أن أشير إلى أنني كنت مأخوذا بالفنون كلها، ففي مرحلتي المدرسية رسمتُ، وكانت لدينا جدارية في غرفة الضيوف تجرأت ورسمتها، وكنتُ أصوِّر، وأحبّ السينما كثيرا، وكان حلمي الأكبر أن أدرس الموسيقى، ولذا كتبت بعد سنوات طوال «لو أنني كنت مايسترو لكانت حياتي أفضل».

• لماذا لم ينجح إبراهيم نصرالله في تخفيف سرده من الحمولات؟

•• كل عمل في النهاية لديه حمولاته، وهذا هو سبب كتابته الأول، سواء كانت الحمولة شخصية أو عامة، لكن المسألة الأساسية هي كيف تعبّر عن هذه الحمولات فنيا، مثل القضية الفلسطينية، مثلا، التي بقدر ما هي حكاية شعب، هي حكاية بشر يحبّون ويكرهون، فيهم الشجاع وفيهم الجبان، العاشق للخيل وسارقها، البسيط والمُركّب، الذي تقتله كلمة، والقاسي الذي لا يؤثر فيه الكلام أو سواه، وهي حكاية صراع بين شرق وغرب وصراع مع إمبراطوريات ودول، وخارج وداخل، وهي حكايتي الشخصية أيضا، الحكاية التي أثرت في كل شيء في حياتي بصورة وجودية، فبسببها ولدت في هذا المكان، وعشت في هذا المكان، وتعرضت للموت في ذلك المكان، وليست لدي حتى الآن وسادة مريحة أنام عليها باطمئنان في أي مكان نمت فيه في هذا العالم. لكن المعيار الذي أخلصت له، أن القضايا الكبيرة بحاجة لمستويات فنية عالية للتعبير عنها.

• ماذا عنى لك الفوز بجائزة البوكر؟

•• عنى لي أنه تقدير لرواية تمرَّدت، وذهبت للمستقبل، باتجاه الخيال العلمي، وهي أول رواية عربية من هذا النوع تفوز بالجائزة، وعنى لي أن التجريب، الذي أدافع عنه بقوة، أمر يمكن أن يُفسَح له المكان للصعود إلى الخشبة ليتم تكريمه. ولذا هو فوزُ انحيازي للتجدّد داخل التجربة، وأن لا أكون مُرتَهَنا لأي منطق غير منطق الكتابة.

• متى يمكننا استنساخ تجربة مؤسسة شومان الثقافية وكيف نصالح بين المال والإبداع؟

•• هذه مسألة كبيرة، يمكن أن تُستنسخ، إذا وجدت الظروف الملائمة لاحتضانها، ولكنني لا أظن أنها ستنجح في غياب انفتاح حقيقي، فالمجال الرّسمي تمثله وزارات الثقافة، وتجربتها في هذا المجال، عربيا، عموما محزنة. المصالحة بين المال والإبداع أمرٌ غير وارد، إلا في حالة واحدة هو أن يكون المال مؤمنا بقوة الإبداع والفكر في التطوّر، وأن يصل إلى درجة من القوة، بحيث يفرض فكرته هذه على الجانب الرسمي الذي لا يؤمن بها، أو لا يدرك أثرها، أو لا يعتبرها أمر جديرًا بالخلاف!

• هل يشترط أدلجة الكتابة أو تسييسها ليوصف الكاتب بالملتزم؟

•• كل كتابة حقيقية ملتزمةٌ بالبشر وبهذا الكوكب الصغير الجميل، وبالحياة والقيم والحرية وفكرة العدالة والجمال، وبجودة الكتابة نفسها، وبكل الأسئلة التي أرَّقت الإنسان منذ وجوده، سواء كان يعيش في قرية منسية أو في البريّة أو مدينة عملاقة.

• ما معنى الالتزام أدبياً بحسب تصورك؟

•• هو إجابتي عن السؤال السابق.

• بماذا تردّ على من تحفظ على أسلوب روايتك الأولى؟

•• أظنني لا أستطيع أن أردّ، فكل ردّ للكاتب مجروح، ولكن الرواية نفسها هي التي تردّ، لقد اختُبرَتْ «براري الحُمّى» بالزمن وعاشت، وهي اليوم شابة وهي تتجاوز الـ40 من عمرها، واختُبرَت بالنظريات النقدية التي تعتبرها منذ صدورها ما بعد حداثية، وفي استقبالها الجميل المستمر عربيا، وحيثما تُرجمت، فقد اختارها الدنماركيون عام 2007 واحدة من أهم خمس روايات ترجمت إلى الدنماركية من كل أنحاء العالم، واعتبرتها الغارديان البريطانية واحدة من أهم 10 روايات كُتِبتْ عن العالم العربي، كتبها عرب أو أجانب، والقائمة ضمت ثلاثية نجيب محفوظ، وخماسية مدن الملح، وموسم الهجرة إلى الشمال، ورباعية الإسكندرية للورنس داريل.

• ما محفز التوجه للكتابة الدرامية؟

•• إذا كنت تعني كتابتي لسيناريو مسلسل «زمن الخيول البيضاء» الذي كان من المقرر أن يخرجه حاتم علي، فقد فُرض الأمر عليّ! كنت أرى ضرورة أن تتحرّر روايتي مني، لكن المشكلات التي واجهتنا في كتابة السيناريو، دفعت المنتج لأن يطلب مني كتابته، كانت حجته أن علاقتي بالسينما قوية، ولي كتابان عنها، ولأنني أعرف روايتي أكثر من غيري، ولكنني اشترطتُ أن أكتب 3 حلقات لا أضع عليها اسمي ولا يقال لحاتم علي من كتبَها، وحين جاء ردّ حاتم أنه سيبدأ من حيث تبدأ كل حلقة وأنه سيُنهي حيث تنتهي، وكما كتَبها الكاتب، ولن يغيّر شيئا في النص أو المَشاهِد، أخبروه باسم الكاتب، وهذا ما جعلني أكمل المسلسل الذي جاء في 30 حلقة، وكان من أفضل التجارب التي تعلّمت منها. أما المشروع الثاني فهو مشروع تحويل «براري الحُمّى» إلى فيلم، وقد كتبتُ السيناريو في مطلع التسعينيات لكن مشاكل الإنتاج حالت دون تنفيذها.

• ما المشروع الآني والمستقبلي شعراً وسرداً؟

•• ديواني الأخير كان «الحبّ شرير» وهو التجربة التي حلمتُ بها دائما، وأعني كتابة أوبرا شعرية، وهو عن علاقة وجودية مكثفة في حكاية حبّ بين ذئب وذئبة. هناك قصائد متفرقة بعده، لكنني أميل منذ سنوات طويلة إلى فكرة الديوان الذي يشكل مشروعا شعريّا. ما زلت أحسّ أنني أعيش في ذلك الديوان. أما على مستوى السّرد فقد صدرت حديثا رواية «مأساة كاتب القصة القصيرة»، وهناك مشروع السيرة الروائية، ورواية للفتيان، وإن كنت أطمح في أن تكون لكل الأعمار، أمّي صاحبة النصف الأول من حكايتها، وابنها صاحب النصف الثاني!

• متى ستقول أشهد أني قد عشت؟

•• ربما على سرير الرحيل! فهذه مناسبة لا مناسبات بعدها. إلا أنني أعتبر نفسي محظوظا جدا حتى الآن بما عشت، وممتلئ بكل التجارب وأدين لها، بحلوها ومرها.

• هل تتلبسك مقولة «نعيشها لنرويها»؟

•• نعيشها لنعيشها أولا، ونرويها لنعيشها مرة أخرى، فالحياة جميلة يا صاحبي، وفي ظني أن الكتابة كالأحلام وجِدَتْ لأننا لا نشبع من الحياة.

• ماذا تقول للقارئ السعودي؟

•• أفتخرُ بأنه قارئ أعمالي الأول.