أسامة الحداد
أسامة الحداد
-A +A
أسامة الحداد - القاهرة
ليس هنالك حدود أو أنماط متفق عليها في بناء الرواية أو معمارها الخارجي ولا تقنيات كتابتها، والذهاب إلى النص عبر تحليل مكوناته يشي بامتداد الوعي وتجاوز الزمن التاريخي من خلال توظيف الومضات المتقطعة للوهج الداخلي، ويتبادل البشر والزمن موقعهما في تشكيل جسد النص دون اعتماد لترتيب تعاقبي، فثمة عمق آخر في الوعي يحرك مسارات الرواية نحو تحرر الذات وصياغة التجربة بأشكال متنوعة، وبناء علاقات بين البنية المتخيلة والواقع والسعي إلى كسر الإيهام وترتيب الخطابات والأشكال على مسافات مختلفة من النواة الدلالية النهائية، يراوغنا في امتداد الحدث وحركة الزمن الذي لا يتوافق وحركته الفيزيقية، بل يعمد إلى تناثره ويصل أوجه بظهوره الروائي «عبده خال»، ليحطم المسافة بين الواقع والمتخيل، ويكشف عن اليد التي تحرك العرائس الورقية التي صنعها ويؤكد أنها حقيقية ليضعنا بروايته «ترمي بشرر» أمام خطاب روائي متعدد المستويات، فيحمل خطابه النقدي حول مفهوم الشخصية في الرواية ودورها والحدث وأثره ولحظة التنوير ويضع الأسئلة حول مكونات الرواية وتجليات رصد المتغيرات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية في العمل الأدبي، وهذه الأسئلة المثارة دوما التي تناولتها عشرات النظريات والأطروحات قائمة، وكما تبدأ الرواية بالخطيئة - التي ليست معنى نهائيا - تختتم بحكاياتها وضحاياها في عزف متنوع يكشف سرائر النفس ويعيد صياغة التاريخ باعتبار النص سؤالا في التاريخ البشري، ويضع القدر في مواجهة أبطاله وكأننا نعيش داخل مسرحية من التراجيديا الإغريقية.

إن الخطيئة تشكل فضاء العالم والصراعات المتعددة مع سلطات مختلفة بدءا من سلطة الجغرافيا وسطوة المكان من الحي الفقير والبحر إلى القصر بأنواره الباذخة وأسواره كعالم مبهم تسكنه الأسرار، والزمن يتحرك عبر ذاكرة استعادية وذاكرة تخيلية وتغدو المدينة القديمة أسطورة في مواجهة القصر والشيطان يرتدي أقنعة عدة ويحمل وجوه الكثيرين في مواءمة لأخطاء البشر وعذاباتهم، وبالتأكيد فالنظام الذي أنتج الدلالة هو محور النص وليست الدلالة في ذاتها، وحين نتجه إلى أحد المعاني التي أنتجه النص فلا يمكننا بحال إغفال تعددها فالنص في حالة صيرورة تأويلية، وما يشكله الخطاب الظاهري يحمل خطابات متعددة مسكوتاً عنها، وما بين الرغبة في التطهر والسعي إلى الانتقام يسرد «طارق فاضل» حكايته ويعيدها الراوي كما سمعها فهكذا قال لنا في روايته وأكد على الأحداث عبر امتدادها مع هروب البطل «طارق فاضل» أثناء الصلاة داخل المسجد، وهو الحدث الذي بدا عنيفا ومفصليا، ويشكل بعنفه لحظة زمنية حقيقية عبر التحول والصراع، ويعيدنا إلى مقولة «باشلار» في كتابه عن «لوتريامون» حول أن الزمن الحقيقي هو زمن التحول والعنف حيث الحركة العنيفة والفاصلة. ومن الفعل البادي تطهيريا يبدأ وتتبعه الرغبة في الانتقام كاستشراف للقادم وكزمن استباقي - يبدأ الكاتب من خلاله برنامجه السردي بشقيه البسيط والمركب - ننتظر معه وينتهي بهزيمته وموته قتيلا داخل القصر الذي شهد تناقضاته وخياناته وتبعيته وأضاع داخله 33 عاما من حياته، وكما فقد براءته تفقد المدينة بكارتها وتتحول تحت سطوة الرأسمالية إلى مدينة جديدة فكأن المدينة القديمة أسطورة بفقدانها لصفاتها التاريخية، ففيها تفقد الأشياء ذكرى اختلافها، وتختفي الكهوف المنتشرة بين البحر واليابسة التي كانت محلا للمغامرات، وتنهدم البيوت القديمة ومعها تزول الحارات الضيقة التي شهدت النزوات والهزائم و«طارق فاضل» ليس بطلا أسطوريا بل أحد المهمشين المستسلمين لقدرهم ينهزم في النهاية لحظة مقاومة السيد والرغبة في الانتقام للجميع منه، ويبدو شقيقه «إبراهيم» نقيضا وانعكاسا لصورته ليعيدنا إلى «الإخوة كارامازوف» في تفاعل نصي يكشف عن هويته الخلافية حيث مواجهة ينتصر فيها «إبراهيم» ظاهريا ولكنه يعيد الحكاية من جديد عبر أولاده وابن شقيقتهما الغائبة. ولعل من سمات هذه الرواية تعدد الرواة من الراوي الضمني حيث تدوين ما قصه البطل «طارق فاضل» على الراوي في العتبة الأولى والثانية وتاريخ عيسى الرديني والقصر، لتحمل قصة الحي القديم وأسرته وأقرانه وضحاياه عبر نصف قرن تمثل حياته إلى لحظة هروبه من الصلاة والعدو خارج المسجد باعتبار أن تطهيره لا يتحقق إلا بالتخلص من السيد، وتجاوز النهاية المعتادة، وتأتي العتبة الأولى والثانية كخطوتين إلى البرزخ حيث كسر الإيهام ودخول الكاتب إلى مسرح الحدث في مسرحة للرواية، إذ يتم توظيف آليات المسرح وتقنياته بالتزامن مع متابعة مصائر الأبطال والكشف عن وجودهم كامتداد لما قصه البطل الذي يلقى حتفه.


إن اللغة كأنساق من الرموز والإشارات، وكنظام دلالي يمثل مكونا ثقافيا، تقدم وظائفها داخل النص من التواصلية وحتى التأثيرية والجمالية؛ ويتم كسر مطلقية صوت الراوي وتعدد الأصوات، والجمع بين السرد الحكائي والشعري والوصف والخبر في تحولات تلقائية حملت الخطاب الروائي بتعدده وامتداده، وتشكل اللغة أنساقها الجمالية حتى في الحوار مثل ما جاء على لسان «أسامة»: (ما الذي يمنع أن أبتني بيتا بين تلك الكثبان الرملية، وتكون مهمتي الأساسية غرس البذور، وسقيها على قبر الحبيبة، ما الذي يمنع؟) ص 338 أو من خلال الوصف (عمتي أشبه بشجرة صحراوية، أشوكت غصونها وثمارها، ولم تستطع عبور تصحر حقدها) ص 94 أو (ظلمة شرسة انقضت على كل شيء، خفتت أصوات السهارى مع إيقاف الألعاب التي طالما تصايحوا كثيرا أثناء لعبهم، أو فوز فريق على فريق، وأحجار الدومينو تناثرت في غير استواء، وأوراق الكوتشينة عبث بها ريح عابر، والأزقة الملتوية استوت أمام العابرين ليرتطموا بجدرانها) ص 115

ومن هذه اللغة بمستوياتها المتعددة يتشكل الخطاب الروائي وهو يرصد المكان وتحولاته والشخصيات في هزائمها وارتباكاتها وامتدادها أيضا، حتى مع تغيير اسم الصغير «طارق» إلى «ناجي» فهو ليس حلا والصور الغائمة لنساء يعشن كأجساد خالية من الحياة تصدمنا في نهاية الرواية التي حملت خطابا متعددا، وعوالم وصراعات تتجدد حتى مع انتصار السيد في قصره، وما يشكله من أفق دلالي؛ فالسيد هو الآخر مهزوم من محظية خائنة وكراهية يحملها الجميع له برغبتهم المتواصلة في الانتقام. إن شخصية «طارق فاضل» تظل مهيمنة إنها تحمل سماتها الخاصة وغرائبيتها وتتفاعل مع الشخصيات الأخرى داخل النص والتي جاءت حتى الهامشية مؤثرة في الحدث وفاعلة داخله تحمل دلالاتها، وهو ما يثير الأسئلة حول مفهومية الشخصية ودورها في العمل الروائي وإشكالياتها بين «باختين» الذي يرى أنها من يحمل المبدأ الحواري و«بارت» الذي يرى عدم أهميتها وأنها كائنات ورقية صنعت لحمل الخطاب وعلى الرغم من اتفاقهما الظاهر حول الحدث ودور الشخصية في نقله تظل الشخصية محل إشكالية وخلاف كما يرى «عبد الملك مرتاض» حول وجودها وتأثيراتها داخل الرواية، ويظل «طارق فاضل» و«تهاني» و«حسن دربيل» و«السيد» شخصيات مؤثرة لا تبرح ذهن المتلقي حتى وإن تشابهت مع شخصيات روائية أخرى فالتفاعل بين هذه الشخصيات يحمل حيويتة ويكشف عن الصراع بمستوياته المتعددة وهو ما يمثل المبدأ الحواري. وأخيرا فهذا العمل السردي بحاجة إلى قراءات متعددة للكشف عن جماليات المكان، ورصد المتغيرات الاجتماعية والسياسية، والجماليات المتعددة للنص إذ إنه يشكل عملا سرديا يحمل المتعة والدهشة والاستطيقا بمستويات متعددة، ويضع الإنسان في مواجهة مصيره ويشكل الخطاب المسكوت عنه نصا آخر ممتدا ورحبا يحمل استشرافه وثوريته، على الرغم من الخطاب الأخلاقي الذي تحمله الرواية، والذي يمثل إشكالية حول مفهومية الأخلاق ونسبيتها، ودور الفن وعلاقته بالمجتمع.