تحدثت في مقال سابق عن اقتصاد المعرفة وأهميته، وتنافس الدول المتقدمة في مجال التطوير والابتكار، والمردود الاقتصادي المغري للإنفاق على هذا المجال، وهو ما عزز مكانة تلك الدول وحضورها في ميادين الاقتصاد والتنمية، والتحكم في التقنية واحتكارها في كثير من الأحيان، كما أن دور الابتكار في صناعة اقتصاد مزدهر يحظى باهتمام متزايد على مستوى الأبحاث والدراسات المعمقة، كما أسهمت أفكار وتجارب العلماء والباحثين في مجالات عديدة في تحسين كفاءة استخدام الموارد الطبيعية، وتطوير إنتاج الأغذية والمحاصيل الزراعية خلال العقود الماضية، ما ساعد في إنقاذ مئات الملايين من المجاعة، وتوفير أسباب الرفاهية.
وبعد توحيد المملكة واستقرارها انطلقت خطط تنموية طموحة ركزت على العنصر البشري، واستثمرت فيه تعليماً وتدريباً وتأهيلاً وابتعاثاً لأفضل المؤسسات التعليمية في العالم، ما حقق قفزات نوعية في العديد من المجالات وفي زمن قياسي. ازدهرت الجامعات معززة بالعقول الوطنية والأجنبية، وتحركت عجلة الأبحاث والدراسات والابتكارات مستفيدة من الدعم السخي الذي وفرته الدولة عبر برامج المنح البحثية التي أطلقتها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية خلال عقود عدة، حتى تغيرت استراتيجية ومهام المدينة، وتوقفت عن دعم واحتضان الدراسات والأبحاث العلمية التي تقدمها الجامعات مما أثر على حركة البحث العلمي فيها بشدة، وتسبب في ركود بحثي كبير.
ومن نافلة القول إن وظائف الجامعات بشكل عام تتركز في ثلاثة مجالات رئيسية؛ التدريس، وخدمة المجتمع، والبحث العلمي، وتعتمد جودة الوظيفتين الأوليين على حيوية وكفاءة البحث العلمي، الذي يتعدى تأثيره – في الوضع المثالي – الجامعات ليسهم في التطوير، والتنمية الوطنية، وتوفير الحلول الملائمة للتحديات التقنية والصناعية والزراعية والبيئية، وتتعزز من خلاله ركائز اقتصاد المعرفة، وفي المحصلة، ينقل الدولة إلى مصاف الدول المتقدمة علمياً وتقنياً.
وبالرغم من إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار المنوط بها دفع عجلة البحث العلمي في المملكة، إلا أن تأثيرها لا يزال محدوداً؛ نظراً لحداثة نشأتها، ومن غير المؤكد أنها ستتمكن من تلبية طموح آلاف الباحثين المتعطشين للدعم والتمكين في الجامعات السعودية، وبالتالي لا غنى عن إسهام ومشاركة القطاع الخاص في دعم البحث العلمي والابتكار، وهو سمة من سمات الدول المتقدمة علمياً، حيث يبلغ تمويل القطاع الخاص في بعض تلك الدول ما يزيد على 90% من المبالغ المنفقة على البحث والتطوير، ويمكن الاستفادة من التجربة الهولندية الملهمة في الابتكار الزراعي؛ فقد شجعت هولندا التعاون بين المزارعين، والباحثين، والشركات الخاصة. هذا التعاون، المعروف باسم «الثلاثية الذهبية»: (الحكومة، الأكاديميون، القطاع الخاص) عزز تبادل المعرفة وتطبيق الحلول المبتكرة.
وفي المملكة، لا يزال القطاع الخاص بعيداً عن رعاية البحث والابتكار والتطوير، والإفادة والاستفادة من الإمكانات البحثية في الجامعات السعودية، ما يفوت فرصة ثمين في خلق شراكات ناجحة تعود على الطرفين بالمنفعة، وتحقق الازدهار الاقتصادي للوطن. ويمكن تحديد مواطن الخلل في هذه القطيعة بعوامل تعود لسياسة بعض الجامعات التي تعوزها القناعة بأهمية التعاون والشراكة، كما تحيط الضبابية بهويتها التي تتحدد من خلالها شراكاتها، وأولوياتها البحثية، والأخيرة ترتبط عادة بالموقع الجغرافي، والميز النسبية، والموارد الطبيعية، والتخصصات الرئيسية والتميز الأكاديمي. ومن العجيب ألا تولي بعض الجامعات هذا الموضوع الأهمية التي يستحقها (إحدى الجامعات في منطقة زراعية مهمة على المستوى الوطني فوتت فرصة التميز في هذا المجال الحيوي، ويممت وجهها شطر تقنيات الهندسة والفضاء!)، وقد قدر لي قبل سنوات زيارة إحدى الجامعات الهولندية المرموقة، وشدني وضوح الرؤية والهوية لدى الجامعة التي حددت أربع أولويات بحثية نابعة من حاجة المجتمع، ومزايا المنطقة، ومواردها الطبيعية.
كما أن هناك أسباباً خاصة بالقطاع الخاص تحول دون إسهامه في دعم جهود البحث والابتكار، منها عدم نضج كثير من مكونات هذا القطاع ما يمنعها من إدراك المزايا التنموية، والأهمية الاستراتيجية للتعاون مع الجامعات الوطنية، وتفضيل الحلول المستوردة السريعة والفعالة (على المدى القصير فقط).
إن من متطلبات نجاح قطاع البحث والابتكار في المملكة، وجود رؤية واستراتيجية واضحة للجامعات، تمكنها من تحقيق الشراكات المفيدة داخلياً وخارجياً. ومن المتوقع والمأمول من هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار أن تعيد الزخم لهذا القطاع الحيوي، وتضبط إيقاعه بما يمنع الازدواجية، ويقلل الهدر المالي الناتج عن اشتغال بعض الجهات غير البحثية في دراسات وأبحاث غير مجدية، كما أن إقامة ملتقى وطني سنوي تنظمه الهيئة، وتشارك فيه الجامعات، ويدعى إليه القطاع الخاص، والجهات ذات العلاقة من شأنه أن يردم الهوة، ويعزز الشراكات المثمرة بين مؤسسات البحث العلمي والقطاع الخاص، ويحقق المستهدفات الوطنية الطموحة.