-A +A
صدقة يحيى فاضل
لن يستقر لبنان إلا إذا... لم نقل، بالطبع، إكمالا للفراغ في نهاية هذه العبارة: إلا إذا استولى الجيش اللبناني على السلطة (مثلا) وأقام حكم القلة العسكرية الدائم، أو ما شابه ذلك. بل قلنا: لن يستقر لبنان (موحدا أو فيدراليا) أو أي بلد آخر مشابه، إلا إذا «طبع» وضعه السياسي، وأقام نظاما برلمانيا حقيقيا، يتجسد في دستور لبناني لاطائفي جديد... يؤكد سيادة الشعب، ويسمح بتكوين الأحزاب السياسية، وفق الأصول المتعارف عليها عالميا، ويمنع أي حزب من تشكيل ميليشيا خاصة به، وتحتكر الدولة (ممثلة بالحكومة اللبنانية) كل وسائل الإكراه العام. إضافة لذلك، يجب تحويل ما يسمى بـ«حزب الله» إلى حزب سياسي عادى، منزوع السلاح، حتى لا يكون «دولة داخل دولة». فلبنان كما هو الأن مريض سياسيا، ولن تشفيه إلا هذه الوصفة، التي يجمع عليها كل «أطباء» السياسة.

***


هذا ما قلناه في مقال الأسبوع الماضي بهذه الصحيفة، والذى كان بعنوان: «لن يستقر لبنان إلا إذا...». واليوم، وبعد تأمل أعمق في الواقع السياسي اللبناني، يبرز تساؤل هام ومصيري، ألا وهو: كيف يتم التمهيد لـ«تطبيع» الوضع السياسي اللبناني، ومن ثم إقامة (فرض) النظام المأمول، والذي يعتبر هو «العلاج» الأنجع، والذى سيضمن استقرار لبنان، وما شابهه من دول مضطربة غير مستقرة، في المدى الطويل؟!

هنا، لا بد من «قوة نزيهة» تستولي على السلطة عنوة، وتزيح الأحزاب الطائفية ورموزها، وتقيم النظام المأمول، وتسلمه (مشكورة مقدرة) للشعب. وهذا البطل المرجو لابد أن تتوفر فيه خصيصتان: القوة التي تمكنه من إزاحة عصابات الاستبداد والطائفية والفساد، والنزاهة التي تحتم عليه وتلزمه بإقامة النظام المأمول، والرحيل... لذلك، يمكن أن نقول اليوم: قد يستقر لبنان إذا... ونملأ الفراغ الأخير بالعبارة التالية: استولت قوة لبنانية نزيهة على السلطة، وأزاحت طغاة الطائفية، وأقامت النظام السياسي المناسب، ثم رحلت.

***

ولكن، أين هو هذا البطل الخرافي المخلص؟! بالتأكيد، هو ليس أحد قادة الأحزاب الطائفية اللبنانية. هل هو «الجيش اللبناني»، إذا؟! ولكن، يقال إن الطائفية قد اخترقت الجيش اللبناني هو الآخر. ومع ذلك، فإن هذا الجيش ما زال «وطنيا»، كما يدعي قادته. لذلك، يظل هو الأقرب ليكون «البطل» النزيه المنتظر. لا أحد يتمنى انقلابا عسكريا على الطريقة العربية التي تستبدل مستبدا بمستبد آخر. فهل يكون الجيش اللبناني هو البطل الاستثنائي، ليدخل التاريخ السياسي لبلاده وللعرب من أوسع الأبواب، وأنبلها؟! قد يحصل هذا التطور السعيد، لاسيما وهناك شعب (لبناني) واع، ومثقف، ولا يقبل الاستبداد.

***

لقد تغنى المفكرون السياسيون بالديمقراطية... مع تأكيد بعضهم بأن الديكتاتورية الاستبدادية المصلحة ضرورية في حالات ثلاث فقط، هي: إنشاء دولة من عدم؛ إنقاذ دولة من انهيار وشيك؛ إصلاح دولة بالغة الفساد. أما في حالة صلاح الدولة، وعودة الحياة فيها إلى الوضع الطبيعي، فإن الحكم التمثيلي هو الأنسب والضامن للاستقرار السياسي والازدهار الحضاري في المدى الطويل.

وربما يستحسن تذكر هذه النظريات العلمية المعتمدة عند تحليل الوضع السياسي العام الراهن في بعض الأقطار العربية المضطربة وغير المستقرة، والتأمل في الحلول الممكنة لهذه الإشكالية السياسية الخطيرة التي تعاني منها هذه الدول الآن (سوريا، العراق، لبنان، اليمن، ليبيا وغيرهم)... وغالبا لن نجد أفضل من وصفة الديكتاتورية المصلحة، سيما وقد تواجدت كل الحالات الثلاث، في هذه الدول في الوقت الحاضر، ونشأت ضرورة وجود «قادة» أقوياء (ينفردون بالسلطة مؤقتا) لتجاوز أزمة هذه الدول. كأن ينهض قائد جيش، أو حزب وطني، في كل منها، ويستولي على السلطة، معيداً الأمن والاستقرار إلى ربوع بلاده، وبدء العملية السياسية التي تضمن، في نهاية الامر، تسليم السلطة لأطراف منتخبة، وفق دستور مقبول. ويظل السؤال قائما: كيف يؤتى بـ«الديكتاتور المصلح» ؟!.

***

لقد أدى تنوع واختلال التكوين السياسي والاجتماعي اللبناني وعدم وجود «نظام» ملائم يستوعب هذا الاختلاف بطوائفه الكبرى، إلى ابتلاء لبنان بمرض سياسي عضال... اسمه «عدم الاستقرار السياسي» الحقيقي، أو «عدم الاستقرار السياسي المبطن»، أو غير السافر. كان «عدم الاستقرار السياسي» سافرا في بعض المراحل، وخفيا مبطنا في أغلب الأوقات. ومعروف أنه ينتج عن هذا المرض أعراض خطيرة، أقلها الاضطرابات والقلاقل، وأسوأها الحراب الأهلي. وهذا المرض أدى لحدوث كارثة الحرب الأهلية المأساوية، بدءا من العام 1975م... تلك الحرب التي ألحقت بلبنان - والعرب، بصفة عامة - خسائر فادحة. بقيت الحرب مشتعلة حتى وصول الأطراف المتصارعة إلى «اتفاق الطائف». إذ تواصلت على مدار 14 عاما، وكانت تخلف - في المتوسط - حوالى 60 قتيلا لبنانيا في اليوم الواحد. إضافة إلى خسائر مادية، تقدر بعشرات المليارات من الدولارات شهريا. كانت نكبة... تنزل بهذا البلد العربي الجميل، ونكسة فظيعة... أضيفت لنكبات العرب الكبرى في القرن العشرين الماضي.

توقفت تلك الحرب في العام 1989م، وبدأت عملية مصالحة وطنية شاملة، وحركة إعمار وإعادة إعمار ملفتة للنظر... غير أن المرض لم يعالج، كما ينبغي. حيث أعطي المريض «مسكنات»، انتظارا لتناول العلاج الناجع. ولكن المريض لم يعالج تماما، وما زال بعد حوالى 30 عاما من تناول المسكنات، والدخول في «هدنة»، يحمل نفس الفيروسات. ولم يكن «الاقتصاد» وتحسنه إلا عنصرا واحدا من تركيبة العلاج. فكثير من النفوس كانت - وما زالت - تعاني من الغبن، الذي يؤكد أن: بذور مرض عدم الاستقرار السياسي (عدم الرضا) مازالت قوية ونشطة... بحيث شبهت بالقنابل الموقوتة، القابلة للانفجار، في لحظات توتر مواتية. وها هي الآن تتفجر مشتعلة بتاريخ 16 أكتوبر 2019م...!

***

إن «وثيقة الاتفاق الوطني» التي أقرها النواب اللبنانيون يوم 13/‏ 10/‏ 1989م، بالطائف (اتفاق الطائف) هي اتفاقية بالغة الأهمية والجودة، ولكنها - وبنص فيها - مرحلية. وهناك بنود فيها مازالت - كما يعرف الفرقاء اللبنانيون - تنتظر التطبيق الفعلي التام، و«السليم»... ليكمل اتفاق الطائف دوره... كاتفاق مرحلي... يحتاج - بالضرورة - إلى متابعة، فاتفاق لاحق نهائي... يتمثل في «دستور» جديد دائم للبنان... يضمن له - على المدى الطويل - الاستقرار والأمن، على أسس صلبة، ويضعف بذور الشقاق، أو يستأصلها من جذورها، للحيلولة دون حدوث كوارث جديدة. ويتطلب ذلك إلغاء ما يسمى بـ «الميثاق الوطني» الذي أبرم عام 1943م، وكرس المحاصصة السلطوية الطائفية.

الغليان في لبنان ليس جديدا، ولم يفاجئ المراقبين إطلاقا، الذين كانوا - وما زالوا- يضعون لبنان في قائمة الدول غير المستقرة، بسبب وضعه السياسي المعروف. لقد تأخر علاج لبنان، إن قدر له أن يعالج، بسبب تأخر المتابعة من قبل أهله ومحبيه... وبسبب رغبات إقليمية وعالمية في منع إحداث تغيير سياسي كبير، يشكل مستقبل لبنان، قد يترك تداعيات كبيرة على بعض الأطراف بالمنطقة. ولكن، هناك جديد في الأحداث الحالية. فغالبية الشعب اللبناني، بكل طوائفه، خرجت لتطالب برحيل النظام، وتغييره لما هو «أفضل». وهم يقصدون «كل النظام»، وليس أفرادا أو طائفة بعينها. وهذا، ولا شك، يمثل دعما هائلا لـ«القوة النزيهة» المرجوة.

وعلى هذه الأغلبية الشعبية أن تستمر في ضغوطها، التي إن تواصلت، كما ينبغي، ستجبر المعنيين بالإذعان لمطالبها. وإن تحققت الرغبة السياسية، فستتحقق الرغبة الاقتصادية أيضا، ويخرج الشعب اللبناني منتصرا في هذه الجولة الحاسمة من صراعه مع سلطة فاسدة، تكرس مصالح القلة التي تمثلها، ولا تكترث بمطالب واحتياجات الإنسان اللبناني العادي، الذي جثمت على صدره لأكثر من ستة عقود. وكل محبي لبنان يتمنون الآن، أن يحصل هذا «الانتقال» المرجو، ويتم - إن حصل بالفعل - بيسر وسلام...

* كاتب سعودي