-A +A
محمد مفتي
عقب اندلاع حريق قطار الحرمين ظهرت عبر مختلف وسائل الإعلام وخلال الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي بعض الصور واللقطات المصورة، ومن المؤكد أنها انتقائية ومحدودة ولم تتمكن من تغطية الحدث بصورة شاملة متكاملة، وهو الحدث المؤسف الذي أثار الكثير من الحزن والغضب وعلامات الاستفهام في آن واحد، وعلى الرغم من محدودية هذه الصور واللقطات المصورة وقصورها، إلا أنها أوضحت جسامة الحدث ومدى خطورته، كما أوضحت الكثير من مواطن الخلل وأوجه القصور في مشروع عملاق تم افتتاحه حديثاً وتكلف مليارات الريالات.

ما تم بثه برهن على أن الحدث كان كارثياً؛ فمن ناحية استمر الحريق الهائل لفترة طويلة للغاية قبل أن يتم التمكن من إخماده، وقد شاركت في جهود الإطفاء أعداد كبيرة من قوات الدفاع المدني السعودي، ومن ناحية أخرى يعتبر نشوب حريق بهذه الضخامة في مبنى حديث الإنشاء لم يمر على الانتهاء من بنائه إلا قرابة سنة واحدة جرس إنذار خطيرا ينبئ بوجود خلل ما، إما في المنظومة المعمارية الخاصة به أو في أحد نظم التشغيل أو في إجراءات السلامة واحتياطات الأمان، أو لعله ناتج عن خطأ بشري يدل على التقصير والإهمال.


سرحت بخيالي قليلاً لأتخيل ما لم يحدث بفضل الله، تصورت الكثير من السيناريوهات المرعبة التي كان يحتمل حدوثها؛ كأن تكون محطة القطارات مزدحمة للغاية وتعج بآلاف المسافرين الموزعين عبر جميع طوابق المبنى ومرافقه الملحقة به، وتساءلت بيني وبين نفسي، كيف يمكن وقتها إخلاء المحطة فوراً وتأمين حياة تلك الأعداد الغفيرة من الركاب دون حدوث إصابات لا قدر الله، وهل تتوفر لدى المسؤولين بالمحطة خطط للإخلاء ومنافذ للخروج تنقذ المسافرين عند حدوث تلك الأحداث الطارئة؟ وهل تم القيام بالفعل بتجارب افتراضية للإخلاء وتجربتها قبل البدء في تشغيل المحطة؟ وهل تمت دراسة جميع الاحتمالات الممكنة والحوادث المحتملة قبل الشروع ببناء المحطة؟ وهل يتوفر بالمحطة عدد كافٍ من المختصين المسؤولين عن معالجة الحوادث الطارئة وأهمها وأخطرها -بطبيعة الحال- الحرائق؟

لقد كنت أحد شهود العيان ممن شاهدوا الحريق، وذلك أثناء توجهي إلى منزلي عبر طريق الحرمين، شاهدته بالطبع من الخارج وهالتني ضخامة الحدث، لاحظت أن المبنى المخصص لوقوف السيارات لا يبعد سوى عدة أمتار قليلة عن محطة القطار، وهو مبنى كبير متعدد الطوابق ويستوعب مئات السيارات، ولولا لطف الله كان من الممكن أن تمتد ألسنة الحريق للمبنى العامر بخزانات الوقود الموجودة داخل السيارات، وبمجرد التقاط سيارة واحدة لشرارة الحريق ستنتقل ألسنة اللهب بسرعة كبيرة لبقية السيارات، ليحترق المبنى هو الآخر مخلفاً نتائج أقل ما يمكن أن توصف به هو أنها كارثية بالمعنى الحرفي للكلمة، وتتابعت الأفكار في رأسي، ماذا لو كان الحادث بالقرب من مستشفى أو مدرسة أطفال مثلاً، هل تملك المستشفيات أو المدارس خططاً لإجلاء المرضى أو الطلبة بالسرعة الكافية وبالكفاءة اللازمة قبل حدوث أي أضرار لا تحمد عقباها؟

يدعي المسؤولون في شركة الخطوط الحديدية أن الحريق كان محدوداً، وأن أنظمة الحريق كانت تعمل بشكل فعال، وهذه التصريحات تذكرني بنكتة ساخرة، وهي أنه بعد قيام أحد الأطباء الجراحين بالانتهاء من إجراء عملية جراحية لأحد المرضى سأله أهل المريض، كيف كانت العملية وكيف حال المريض، أجاب بثقة أن العملية في حد ذاتها كانت ناجحة، ولكن المريض مات! وتعتبر التصريحات التي يتناقلها العاملون بشركة الخطوط الحديدية نوعا من البيروقراطية، فإن كانت أنظمة الحرائق تعمل بشكل فعال، فما هو تعريف الفعالية في هذه الحالة؟ وإن كان الحريق نفسه محدوداً فلم توقف تشغيل المحطة إذن؟ ولا شك لدينا في أن ما حدث كان نتيجة لصورة ما من صور الفساد، ولكنه ليس بالضرورة فساد مالي، فالخلل الإنشائي فساد، والتهاون في فحص وتقويم مواصفات المشروع فساد أيضاً.

ولعل أخطر أنواع الفساد هو التهوين من شأن الفساد نفسه، ومن المؤكد أن تشكيل عدة جهات للتحقيق في الحادث هو دليل دامغ على نزاهة التحقيقات المزمع إجراؤها وعلى شفافيتها، غير أن الأكثر أهمية هنا هو الاهتمام بإيجاد وصياغة آليات صالحة لمراجعة مواصفات جميع المرافق العامة سواء المنفذة أو تلك التي تحت التنفيذ، للتأكد من صحتها وسلامتها، فليس المهم الآن مراجعة العقود الإنشائية للتأكد من مطابقتها للمواصفات من عدمه عند تسليمها، بقدر أهمية مراجعة تلك المواصفات ذاتها والتأكد من سلامتها وملاءمتها للبيئة المحلية، ويعد فحص وتقييم مواصفات المشروع أحد المعايير الأساسية لتقييم أي مشروع إنشائي (وذلك بجانب فحص جودة التنفيذ ومقارنة التكلفة الحقيقية بقيمة العطاء المعروض للتأكد من تقاربهما)، ولا شك أن الاهتمام بإعداد تلك الآليات وتنفيذها على النحو المرجو هو الطريق الوحيد والضمانة الأساسية للحيلولة دون تكرار مثل هذه المأساة مستقبلاً.

* كاتب سعودي