-A +A
محمد مفتي
أصدر مجلس الوزراء السعودي قبل أسابيع قراراً برفع الحظر على تنقل المعتمرين والسماح لهم بالتجول داخل المملكة بحرية خارج نطاق مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبموجب هذه الخطوة أصبح بإمكان ما يقرب من 8 ملايين معتمر سنوياً التجول بحرية في كافة مدن وضواحي المملكة، وهو القرار الذي يمثل حلقة جديدة من حلقات تطوير القطاع السياحي والتنمية والاستثمار في الدولة، مما يعكس واقعاً حديثاً يجسد حالة الانفتاح الحضاري مع الشعوب الإسلامية من كافة دول العالم، وبما يؤكد على ريادة المملكة ويرسخ من مكانتها على الصعيدين الدولي والإقليمي في آن واحد.

ملايين الزوار من كافة دول العالم يتوافدون سنوياً على المملكة زائرين للحرمين الشريفين، وراغبين في تأدية شعيرة العمرة، ولأسباب عديدة منها ما هو أمني ومنها ما هو سياسي واجتماعي كان يحظر عليهم مغادرة محيط المدن سالفة الذكر، وهو الأمر الذي كان من شأنه تحجيم تجربتهم السياحية والمعيشية بالمملكة مما يمنح انطباعاً لأولئك المعتمرين بأننا دولة مغلقة، وهو ما قد يعطي صورة غير صحيحة عن طبيعة الحياة فيها، وتكوين فكرة -غالباً مغلوطة- عن عموم السعوديين، فالتجربة التي كان يعيشها المعتمرون كانت تعتبر تجربة منقوصة محدودة بحدود تأدية الشعائر، ومجتزئة عن عموم التجربة المعيشية المتكاملة داخل المملكة.


نحن على ثقة ويقين من أن غالبية هؤلاء المعتمرين لم يكونوا يعرفون سوى محيط الحرمين الشريفين كمكان وموقع للمعيشة والحياة، حتى أن هؤلاء الزوار ممن كان لهم أقارب يعيشون في المملكة لم يكونوا حتى قادرين على زيارتهم أو التواصل معهم خلال فترة زيارتهم للمملكة، وعلى الرغم من أن السياحة الدينية التي تتفوق المملكة في تصدر مؤشراتها عالمياً كانت تمثل المنفذ الوحيد لشعوب الدول الأخرى للتعرف على المملكة وعلى حضارتها وتراثها العريق، إلا أن محدودية وضيق الوقت كانا يحولان دون حدوث ذلك التفاعل المفترض، بخلاف كون قضاء غالبية الوقت المسموح لهم به في تأدية المناسك كان يمثل أيضاً عاملاً مهماً في اختزال التجربة وعدم شمولها، وقد أدت تلك العوامل السابقة جميعها لحرمان المملكة من مصدر مهم من مصادر السياحة والاستثمار والتفاعل الحضاري، وهو الأمر الذي تم تعديله مؤخراً في إطار الرؤية الشاملة الطموح والجريئة لمستقبل المملكة التي تبناها الأمير محمد بن سلمان.

من المعروف أن السياحة كصناعة متعددة الروافد تغذيها صناعات عديدة، لعل أكثرها مباشرة هو قطاع الضيافة ممثلاً في الفنادق والمطاعم والأسواق، وحصر زوار المملكة من المعتمرين داخل حدود مدينتين فحسب من مدن المملكة، كان يركز استفادة هذا القطاع في تلك المدن من الإيرادات السياحية للزوار، وهو من شأنه حرمان بقية مدن المملكة من هذا الدخل، وبالسماح للزوار بالتجول بحرية داخل حدود المملكة سيزيد من تحسين الخدمات السياحية وزيادة الإنفاق بجميع المناطق وتوزيعها، وبخلاف انتعاش ذلك القطاع ستتم تغذية روافده الداعمة له من كافة الصناعات الفرعية، مما سيؤدي لخلق العديد من الوظائف وإثراء سوق العمل المحلي، وبالتالي انتعاش القطاع الاقتصادي ككل وزيادة وتعزيز الفرص الاستثمارية بالدولة.

من المؤكد أن تبعات هذه الخطوة ستصب في الصالح العام المرتبط بازدهار القطاع السياحي بروافده العديدة والمختلفة، وهو ما يبدو مكملاً بوضوح للرؤية المرتبطة بتغذية مصادر الدخل غير النفطية، وللحفاظ على رؤوس الأموال السعودية من الهرب خارج البلاد لتصب في إيرادات الدول الأخرى دونما مبرر حقيقي لذلك، فما يحتاجه العالم بالفعل هو اكتشاف المملكة، وما تحتاجه المملكة هو أن يعرف العالم كنوزها ومواردها وإرثها الحضاري وثقافتها المحلية، ولأن العالم أضحى قرية كونية صغيرة، فلم يعد هناك مكان للشعوب المنغلقة على نفسها، بل والأكثر من ذلك، ليس هناك موطئ قدم لسياسات التردد في ظل عالم شديد التنافسية والتغير.

نحن على يقين من أن تلك القرارات الشجاعة والأخيرة ستلازمها حزمة من السياسات والإجراءات التي تعالج مواطن الخلل التي قد تقترن بتفعيل أو تطبيق وتنفيذ تلك القرارات، ولعل أهمها هو الحيلولة دون تسرب بعض هؤلاء الزوار وتحولهم لعمالة غير نظامية، تعيد مشاكل هذا النوع من العمالة لمسرح الأحداث مرة أخرى بمشاكلها المزمنة، غير أن السياسة الجديدة للمملكة لم تعد أسيرة للمخاوف والعراقيل والتي تمنع الخير أكثر من أن تصد الشر، فلكل سياسة انفتاحية عيوبها، وعلاج العيوب لا يكون بالمنع والرفض فقط، بل يتم من خلال صياغة القوانين الملائمة والمدروسة جيداً، ومن خلال الحسم في تنفيذ الإجراءات بصرامة ودونما تباطؤ أو تهاون وتقصير، وبذلك نكون قد دخلنا عالم التحديات العالمية من أوسع أبوابه، وتبوأنا أخيراً مكانتنا السياسية والاقتصادية الحقيقية التي نستحقها.

* كاتب سعودي