-A +A
علي مكي
هناك من يقول: خلف الأسوار - دائماً - شجرة. لكنني وجدت هذه المرة داخل الأسوار غابة كثيفة من الأشجار والفنّ والحياة الطبيعية بكلّ ألوانها وإبداعاتها المضيئة المبهجة. كان ذلك في سجن ذهبان الذي شهد الأسبوع الماضي (الإثنين، الثلاثاء، الأربعاء 22 ــ 24 يوليو 2019) المهرجان الثاني لإدارة الوقت، والذي دعت إليه رئاسة أمن الدولة عدداً كبيراً من الإعلاميين والمثقفين والفنانين والرسامين والموسيقيين والممثلين والرياضيين وأبرز نجوم الإعلام الجديد في سناب وانستغرام وتويتر.

يقول مدير إدارة سجن المباحث العامة في محافظة جدة: «إن المهرجان السنوي لبرنامج إدارة الوقت هو ظاهرة حضارية، تجتمع فيها السجون الخمسة تحت مظلة الوطن الكبير ممثلة في رئاسة أمن الدولة، لتحيي كرنفالاً فنياً في مختلف أنواع الفنون، التشكيلية والغنائية والمسرحية واليدوية، يُبرِز من خلالها النزلاء في برنامج إدارة الوقت إبداعاتهم، ويلتقون بمجتمعهم الكبير، وليرووا من خلال الكرنفال قصة وحقيقة التغيير».


كان هذا الكلام الموجز والعميق على الغلاف الخلفي لكتاب المهرجان الذي صدر عن مجلة بداية والتي تصدر هي أيضاً من ذات السجن في عددها السابع عشر ويحررها من الغلاف إلى الغلاف النزلاء بتحقيقاتها وحواراتها وصورها ورسوماتها وكاريكاتيرها وآدابها وإبداعاتها وسائر فنونها.

ما حدث في الثلاث السنوات الأخيرة في المباحث العامة وأدائها وانفتاحها الشفاف على الإعلام هو شيء يبعث على الفخر حقيقة، والأهم من ذلك أنه يدعم، دون كلام أو شجب أو إنكار، بطلان كل المزاعم التي يدعيها الكارهون أولئك الذين يسوقون كلماتهم الرخيصة ضد بلادي ويلوكون كماً هائلاً من الأكاذيب والهراءات الجوفاء. فقد قدمت رئاسة أمن الدولة، عبر المباحث العامة وسجونها الخمسة، الصورة كما هي في الواقع: فتحت سجن ذهبان الذي احتوى المهرجان وأطلعت الجميع على نتائج ما يجري هناك، شباب مثل الورد في نضارتهم وبهائهم عاد إليهم رشدهم في سنوات قليلة ويقضون الآن بقية مدة حكمهم ويمارسون في سجنهم، راهناً، حياتهم الطبيعية بعمل ما غفلوا عنه في سنوات (غفلتهم) و(غفوتهم) وانقيادهم لأفكار الشيطان وضلالات شيوخهم!

كانت سجون المباحث العامة في المملكة غرف ولادة للعديد من أعمال النزلاء فناً ورسماً وموسيقى وغناء ونحتاً وتشكيلاً، كأنما تشاهد الفنّ داخل قفص، فسالت من جدران السجون ينابيع الشعر والسرد والإبداع بكافة أشكاله وفنونه وتعبّقت الغرف المغلقة برائحة الكلمة الندية ففتحت أبوابها لتعبق أكثر في فضاءات من دهشات الحاضرين.

لقد تحولت الجدران الصماء في سجون المباحث العامة الخمسة إلى معارض فنية ليرسم النزلاء نوافذ الضوء والحلم بالحياة التي سيخرجون إليها عما قليل، كل حسب مدة حكمه، ويشاركون في بناء وطنهم السعودية، هذا الوطن الذي تتمدد فيه الأحلام وتتعملقُ فيه الطموحات، فهؤلاء النزلاء أصبحوا الآن يملكون الرؤية الحقيقية للمستقبل، وما يبدعونه الآن على الورق واللوحات والمسرح والفن والموسيقى وكل الفنون، هو بداية الأمل وبداية الحياة على الرغم من سنوات الضياع الأولى!

ترى لو كان مؤلف رواية «المعتقل» الكاتب الأفريقي المالاوي «ليجسون كاييرا» التي شرح فيها كيف تحول وطنه مالاوي إلى معتقل كبير، أقول لو كان كاييرا هنا وشاهد نزلاء سجون المباحث العامة في المملكة وعاش قصة وحقيقة التغيير، لكان كتب هذه المرة رواية «الوطن» ليشرح فيها كيف يتحول السجن إلى (وطن) كبير!

* كاتب سعودي