-A +A
يحيى الأمير
المشهد الذي ظهر فيه المجرمون وهم يبايعون أبوبكر البغدادي قبل تنفيذ عملية الزلفي والرايات السوداء والوجوه الملثمة والأسلحة، مشهد مألوف للغاية ويكاد يكون من أكثرها تكرارا دون أدنى زيادة أو نقصان.

اللغة التي يحملها صوت المتحدث في المقطع والطريقة التي يتحدث بها وحتى المفردات الواردة في كلامه (اليهود والنصارى والروافض والمجوس وتمكينهم من السيادة والانتصار للدين) كلها ذات المبررات التي تقاس منذ أيام فيديوهات أعضاء تنظيم القاعدة يوم أن كانت قناة الجزيرة منبرهم الأول.


هذا التكرار ملفت ومهم للغاية، إنه يحدث لأنه من غير الممكن للإرهاب أن يجد منطقا آخر، وهنا يكمن التحدي الحقيقي ولحظة المواجهة الفكرية المستمرة معه.

أركان الخطاب الوارد في الفيديو تدور حول ما يلي: تقرير كفر الدولة بزعمهم، استعراض ما يرى أنها مظاهر لذلك الحكم بالتكفير، تمكين اليهود والنصارى وأعداء الدين، محاربة الدين، ثم سوق مبررات الخروج بأنه لنصرة الدين الذي يواجه ذلك الحرب ولتكون كلمة الله هي العليا.

تهيمن العمومية المطلقة على كل تلك التوصيفات التي حملها المقطع، والتي تتكرر أيضا وبذات العمومية منذ ما يقارب العشرين عاما.

إنه انطباع وخطاب عائم أكثر من كونه حقيقة معرفية، هذه الصفة مشتركة دائما في كل خطابات الإرهاب والتشدد ولكنها تمثل درجات متفاوتة، فمثلا الاتهام بالانحلال تهمة عامة مطلقة لا تقوم على معلومة، والاتهام بنشر الرذيلة وتعدي حدود الله كلها مجرد عناوين عامة، وطالما حملت المنابر والخطب المتشددة تلك الأوصاف وطالما اعتمدت على المطلق والعمومي لأنه لا يستلزم شرحا ولا نقاشا إضافة إلى أن اللحظة الخطابية هي لحظة هيمنة نفسية من الخطيب والمتحدث على المستمعين والمنبر الأعلى وظيفته أن يقرر ويوجه لا أن يناقش ويشرح.

الأداة الإجرائية التي تستخدم تلك العمومية هي واحدة من أخطر أدوات التشدد والإرهاب وهي: الإنكار. لقد خرج هؤلاء منكرين لما يرونه منكرا، وبناء الحكم بالمنكر يعتمد على مخزون فقهي يمثل تلك الدائرة الواسعة من التحريم والتكفير الكامنة في المدون الفقهي والتي لم يطرأ عليها أية تغيير أو بحث أو نقاش حقيقي، ومتى ما تحرك الفرد بفعل إيمانه بذلك الحرام من أجل إنكاره تحول إلى إرهابي واقعي.

اليوم وفي ظل هذه التحولات الاجتماعية التي يشهدها الواقع السعودي والتي لم يحسم حولها الجدل الفقهي ولم تقدم المؤسسات الفقهية أي موقف جديد - عدا بعض الاجتهادات الفردية الخائفة - ستظل تلك القضايا مادة للإنكار، فالموسيقى والترفيه والثقافة والتراث والانفتاح على العالم وتمكين المرأة والإيقاع الجديد في الحياة السعودية اليومية كله محسوم على مستوى السلوك والممارسة ولكنه ليس محسوما على المستوى الفقهي والفكري الديني.

هنا لحظة مواجهة كبرى، وبحاجة لدرس فقهي جديد ومواقف أكثر نضجا ومدنية تسهم في إطفاء تلك النار الكامنة تحت رماد الإنكار، وتسهم في بناء موقف جديد وحيوي وأكثر واقعية.

طالما تمترس الإرهاب بالتحريم الذي يكتظ به الفقه بصفته مدخلا للإنكار ومن ثم مبررا للمواجهة والتغيير.

لا يلغي كل ذلك دور التوظيف الاستخباراتي العالمي للإرهاب كواحد من أسلحة زعزعة الأمن في كثير من البلدان، وطالما أرادت تلك الكيانات الراعية للإرهاب أن تجعل العالم في حالة مواجهة مستمرة مع سلاحها الوحيد المتمثل في الإرهاب، وحيث تمثل إيران الدولة الوحيدة والأبرز في العالم في التعامل مع الإرهاب كسلاح إقليمي وحيث يواجهها العالم اليوم لا من أجل المشروع النووي فقط بل من أجل ذلك الدعم والتبني المستمر للإرهاب فإن من واجب كل البلدان في المنطقة المتضررة من تلك الاعتداءات أن تفسد على إيران إمكانية بناء جنود لها في الداخل، وأن تفسد إمكانية وجود عقول لديها قابلية لأن تنخرط في أعمال الإنكار والتغيير بحثا عن الحق ونصرة للدين.

* كاتب سعودي