-A +A
صدقة يحيى فاضل
هناك عدة تعريفات دقيقة لظاهرة «السياسة»، ربما يوضح مضمونها، وتحليله، ماهية هذه السياسة، ودورها في حياة البشر. لنأخذ ما يمكن أن نشير إليه بـ«التعريف الشامل» لـ«السياسة»، والذي يؤكد أن السياسة في دم كل إنسان راشد عاقل. حيث تعرف «السياسة» بأنها: «الأهداف» التي يسعى طرف معين لتحقيقها، تجاه طرف آخر، و«الوسائل» التي يتبعها... لتحقيق تلك الأهداف.

هذا يعني: أن السياسة هي -بصفة عامة- سلوك إنساني عام (إيجابي و/‏ أو سلبي) لطرف تجاه آخرين من بني جنسه. لنقف عند كلمة «طرف» (Party) لنرى ماذا يمكن أن تعني. إن هذا الطرف هو -في نهاية الأمر- إنسان... سواء تجسد في صورته الفردية، أو في هيئة دولة، أو في صورة جماعية (منظمة أو غير منظمة، دائمة أو مؤقتة... إلخ). بمعنى: إن «الإنسان» يمكن أن يظهر في هيئة منظمة، أو مجموعة، أو حكومة (دولة)... إلخ. فالإنسان يمكن النظر إليه كفرد، أو حزب أو جماعة (منظمة أو غير منظمة) أو حكومة، أو سلطة بعينها... الخ. وهذا ما يجعل «السياسة» من الإنسان وإليه... فهي تبدأ بالإنسان، وتنتهي به. إنها علاقات و«سلوك» هذا المخلوق العام تجاه الآخرين – وسواء كان هذا السلوك طيباً أم سيئاً، بنَّاءً أو مدمراً، إيجابياً أم سلبياً.


***

ويجانب الصواب من يحاول «فصل» (أو حتى عزل) السلوك السياسي تماماً عن السلوك العام للإنسان ككل. كما يخطئ من يظن أنه لا يتعامل بالسياسة (بمعناها الواسع) على مدار الساعة... فسواء أقر الإنسان بذلك أم أنكر، علم أو لم يعلم، شاء أم لم يشأ، فإنه: طالما له علاقات و«سلوك» هادف تجاه الآخرين من حوله، فإنه يمارس السياسة، وله بالضرورة «سياسة» تجاه هؤلاء الآخرين، كما أن للآخرين سياسة نحوه. وهؤلاء الآخرون يمكن أن يكونوا أقارب أو أصدقاء أو معارف، أو مجموعات أو منظمات أو حكومات... إلخ.

صحيح، لقد تم «حصر» السياسة -في المعنى المتداول والمتخصص- في سلوكيات حكومات الدول... ليصبح تعريف «السياسة» المتخصص (أو الضيق) القول بأنها: الأهداف التي تسعى حكومات الدول لتحقيقها، داخل وخارج حدودها، والوسائل التي تتبعها لتحقيق تلك الأهداف. ولكن المعنى العام للسياسة يغطي معظم سلوكيات الإنسان العامة، بكل صوره. وتبعاً لذلك، فإن كل إنسان راشد عاقل يمارس -بطبعه وبالسليقة ولكونه إنساناً- السياسة... طالما كان مستيقظاً ومتعاملاً مع آخرين...

***

وقد مكَّن تبلور واستتباب هذه الحقيقة علماء السياسة من «تنظير» كثير من جوانب السلوك السياسي للإنسان (السياسي بالفطرة). وانطلاقاً من: كون كثير مما «يصدق» على الإنسان الفرد يصدق (وينطبق إلى حد كبير) على الإنسان المجموعة أو التنظيم أو المؤسسة، أو الدولة، تم استنتاج الكثير من النظريات العامة، ذات المصداقية المعقولة. من ذلك: أن الإنسان (العاقل الراشد) غالباً يحاول أن لا يتخذ قراراً إلا إذا أيقن أن مكاسبه من اتخاذ ذلك القرار (السلوك) وتبنيه، تفوق ما قد يكون من خسائر، بالنسبة له. وهذا صحيح -إلى حد كبير- بالنسبة للسياسي ورجل الدولة، أو المسؤول... بل هو صحيح بالنسبة لأي إنسان (راشد عاقل) وفي أي صورة تجسد. بمعنى: إن «السياسي» (المسؤول) يفترض أن لا يتخذ قراراً إلا إذا تأكد (تماماً) أن المكاسب التي ستتحقق (لمن اتخذ القرار باسمهم ولهم) أكبر من الخسائر التي قد تتكبدها الجهة التي اتخذ القرار لها وباسمها.

***

ولكن مهمة «السياسي»، ومسؤوليته، مضاعفة أضعافاً. إذ عندما يتخذ الفرد قراراً، فإن ما قد يجنيه من مكاسب (نتيجة سلوكه/‏ قراره) تعود عليه – بصفة أساسية. كما أن الخسائر، التي قد تنجم عن ذلك السلوك، تلحق به وحده، أو (في أسوأ الأحوال) تلحق به وبمن حوله من أهل ومعارف.

أما السياسي (المسؤول) فإن ما ينتج عن قراراته (سلوكه) من مكاسب تعود على مجتمعه (الذي غالباً ما يعد بالملايين). كما أن «الخسائر» تلحق بذلك المجتمع ككل، ولا تقتصر على السياسي/‏ المسؤول متخذ القرار. لذا، كان من أهم خصائص السياسي الناجح أن تكون نتيجة قراراته (سلوكه) المكاسب منها أكثر من الخسائر. وهذا ما يوجب على السياسي أن يحكم (بمنتهى الدقة والمنطق والحذر) ميزان «التكلفة /‏ المنفعة» (Cost/‏ Benefit) أو: جردة المكسب/‏ الخسارة. وكل ذلك يوجب على السياسي أن يكون ماهراً وحاذقاً... يقدم «المصلحة العامة» على كل ما عداها... لأن المفترض أن تكون المصلحة العامة غايته الأولى والأخيرة... وأن يتجنب المزالق والانحرافات والأخطاء... كي لا يلحق أذى بآلاف، وربما ملايين، ممن يخدمهم.

***

وهناك خطأ شائع يتضمن: عدم الثقة في السياسي، وإلصاق تهم الكذب والغش بـ«السياسيين» أكثر من غيرهم. وهذا غير صحيح على إطلاقه... لأن السياسي هو -في نهاية الأمر- إنسان... له سلوكيات إيجابية وسلبية، كغيره من بني البشر. أما لماذا ينعت معظم الساسة بهذه الصفات أكثر من كثير غيرهم، فلأن ما قد يرتكبونه من أخطاء وانحرافات وتجاوزات، تمس نتائجها وأضرارها الملايين... فيظهر الساسة وكأنهم أكثر الناس كذباً وخداعاً.

وقد أبدع الفكر السياسي العالمي، وعلم السياسة، الضوابط و«الأساليب» التي تكفل «تهذيب» سلوك الساسة، وإخضاعهم (دائماً) للرقابة والمتابعة والمحاسبة وضبط سلوكهم وترشيده. والمجتمعات التي أخذت بهذه الأساليب حققت التقدم والتطور والقوة والمكنة... نتيجة تسخيرها لساستها ومسؤوليها لخدمة المصالح العامة الحقيقية لهذه المجتمعات... لا خدمة مصالح خاصة... غالباً ما تتعارض مع تلك المصالح العامة. فالإنسان (عادياً كان أم مسؤولاً) ميال للاستبداد... وتقديم مصالحه الخاصة، على كل ما عداها... ما لم يكن هناك وازع، أو رادع ومحاسبة... ولا كابح له سوى «تنظيم»... يدفعه دفعاً لخدمة المصالح العامة أولاً وأخيراً.

لعل هذا التوضيح المختصر يسهم في تصحيح بعض الأخطاء الشائعة عن أهم شيء في حياة الناس العامة، ألا وهو «السياسة» التي «تدير» كل فعاليات المجتمع، بما في ذلك اقتصاده... والتي لا ينعقد أمر إيجابي أو سلبي -في الحياة العامة للناس- إلا بها وعبرها.

* كاتب سعودي