-A +A
طلال صالح بنان
من أهم محددات السياسة الخارجية للدول موقعها الجغرافي. الجغرافيا السياسية، لأي دولة، تتكون من 3 عناصر أساسية: تضاريس وسكان ومناخ. عن طريق فهم واستيعاب الجغرافيا السياسية لأي دولة، نستطيع بمنهجية علمية أن نحدد سلوك سياستها الخارجية.. بل، في كثيرٍ من الأحوال، نستشرف تحركها الخارجي.. وكذا طبيعة وشكل نظامها السياسي.

في كثيرٍ من الأحيان سلوك الدول في المجال الخارجي، لا تحدده معايير قِيَمِيّة لها علاقة بخصال الخير والشر، التي لا يمكن قياسها كمياً، بقدر ما توفره جغرافية موقعها من تفسيرات لسلوكها الخارجي. الدول، بعبارة أخرى: ليست عدائية أو مسالمة، بسبب خلفية شعوبها الثقافية أو أيدلوجية نخبها الحاكمة، بقدر ما يمكن أن توفره عبقرية موقعها الجغرافي، من تفسير لسلوكها الخارجي.. وكذا شكل وطبيعة نظامها السياسي.


تاريخياً: كثيراً ما تفسر الجغرافية السياسية للتجمعات الإنسانية، كما الملاحم الكبرى في التاريخ، أيضاً: ازدهار الحضارة الإنسانية. العرب ظلوا لأزمنة تاريخية سحيقة حبيسي الجغرافية الصحراوية القاسية في شبه الجزيرة، التي فرضت عليهم عزلة قسرية عن العالم في مهد الحضارات القديمة بوادي النيل.. وبلاد الرافدين، والبلقان.

إلا أن هذه العزلة الجغرافية القاسية، من ناحية أخرى، حمت استقلال العرب السياسي من ما حولهم أو بعيدا عنهم من قوى إقليمية ودولية متصارعة. الجزيرة العربية كانت حصناً منيعاً أمام فتوحات الإسكندر الأكبر، الذي انتبه للخاصية الإستراتيجية للجزيرة العربية، متأخراً وفاجأته المنية، قبل أن ينهي استعداداته لغزوها. الهكسوس: استخدموا ممر الهلال الخصيب شمال شبه الجزيرة العربية، ليعبروا منه لغزو مصر، وصولاً لشمال أفريقيا.

مصر، تاريخياً: اتخذت إستراتيجية دفاعية لحماية حضارتها المزدهرة، بعيداً عن وادي النيل. مصر القديمة: استفادت إستراتيجياً من عمق الجزيرة العربية، لتؤمن مؤخرة جيوشها، حيث حددت مجال أمنها القومي شرقاً في منطقة الشام، حيث مملكة الحيثيين.. وجنوباً: في القرن الأفريقي، محاذاة لمنابع النيل.. وتخوم الصحراء الغربية على الحدود الليبية، غرباً: لمواجهة تمدد الفينيقيين في شمال أفريقيا.. ولاحقاً: صراع القوى الغربية في المنطقة، من الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية والحروب الصليبية، حتى قريباً في الحرب العالمية الثانية.

العرب، كانوا في حاجة لحافز ومحرك ثقافي ومعنوي وأخلاقي، لإخراجهم من عزلتهم القسرية بسبب الطبيعة القاسية لجغرافية الجزيرة العربية، شحيحة الموارد.. غير الصديقة لإقامة حضارة إنسانية متقدمة ومزدهرة. جاء الإسلام، ليس فقط ليخرج العرب من عزلتهم الجغرافية القسرية القاسية... بل ليساهموا في بناء أسرع وأعرق الحضارات الإنسانية، التي في خلال قرن من الزمن، سادت العالم عدالةً وعلماً وثقافةً وسلاماً، بما لم ينافس العرب فيها، أية أقوام كانت قبلهم وجاءت بعدهم.

حديثاً: هناك علاقة طردية بين الجغرافيا السياسية للدول الكبرى الفاعلة في الأنظمة الدولية الحديثة، وسلوكها الخارجي. منذ نهاية القرن السادس عشر لليوم، حددت الجغرافيا مجال سلوك القوى الاستعمارية على مسرح السياسة الدولية، وكذا طبيعة أنظمتها السياسية الداخلية. كل الاكتشافات الجغرافية المهمة من الناحية التاريخية والإنسانية والإستراتيجية، قامت بها دول بحرية مطلة مباشرةً على أعالي البحار. إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا، حتى هولندا، جميعها دول كانت رائدة في الاكتشافات الجغرافية للعوالم الجديدة في الأمريكتَين وأستراليا والعالم المجهول للمحيطات، حتى أطراف الكرة الأرضية القاسية تضاريسياً ومناخياً في القطبين الشمالي والجنوبي.

في المقابل، شرقاً: تطورت قوى دولية تقليدية منافسة، فرضت الطبيعة القارية لجغرافية موقعها عليها عزلة ثقافية غير متسامحة ساعدت على سيادة أنظمة سياسية شمولية فيها، مثل ألمانيا وروسيا، وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية (اليابان). من جانب آخر: كان للقوى البحرية، في الغرب، ولحد ما اليابان، لموقعها الجغرافي مثالب إنسانية وثقافية، تجلت بصورة قاسية ووحشية في ظاهرة الاستعمار. كل تلك الدول، التي تعاقبت على الأنظمة الدولية الحديثة المتعاقبة، منذ نهاية القرن السادس عشر، كانت دولاً استعمارية بعضها لم تهتم بنشر ثقافتها الإنسانية المتسامحة والليبرالية، خارج حدودها، مثل: بريطانيا، عدا ما انتزع نزعاً، كما هو حال مجتمعات أمريكا الشمالية.. وإلى حد ما فرنسا. بعض تلك القوى البحرية انكفأ حبيساً لشوفونيته الثقافية القطرية الضيقة، ولم يطور أنظمة سياسية ليبرالية متقدمة داخلياً، مثل إسبانيا والبرتغال، حتى وقتٍ قريب جداً. اليابان، اجتمعت عزلة موقعها الجغرافي النائية، مع خلفية ثقافتها الشمولية، مستغلةً موقعها البحري المتميز إستراتيجياً، للتوسع في مجالها الحيوي غرب الباسفيك، وحتى وسط آسيا... وصولاً لحدود شبه القارة الهندية، إلى أن وضعت هزيمتها الساحقة في الحرب العالمية الثانية، حداً لأطماعها الاستعمارية، وكذا لنظامها الشمولي، داخليا. متأخراً: جاء عصر الإمبريالية الكونية، التي غذتها أيدلوجية رأسمالية متطرفة، تقابلها أيدلوجية شمولية قاسية وغير متسامحة، ساهم لحد كبير موقعها الجغرافي في تشكيلها.

عقب الحرب الكونية الثانية، اقتسم كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي العالم. كلتا القوتين العظميين، غلبت قيم الإمبريالية، على سلوك سياستهما الخارجية، بعيداً عن مثاليات الأيدلوجية الإنسانية، في حالة الاتحاد السوفيتي.. وقيم الليبرالية المتسامحة وتجربتها الديمقراطية داخلياً، مثل: الولايات المتحدة. لفهم سلوك الدول الخارجي.. وكذا طبيعة وشكل نظامها السياسي، تكون البداية بدراسة موقعها الجغرافي، تضاريسياً ومناخياً.. وثقافة و«سيكلوجية» شعوبها.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com