-A +A
نجيب يماني
لم يخرج البيان الختامي للقمة العربية الأوروبية، التي عقدت في شرم الشيخ تحت شعار «الاستثمار في الاستقرار»، في مجمل نقاطه عن كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله، التي ألقاها في مفتتح القمة، من حيث تأكيدها على محورية القضية الفلسطينية وعدالتها، وضرورة الالتزام بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن حيالها، منظورًا ذلك في إنزال حل الدولتين إلى أرض الواقع، وتمكين الفلسطينيين من تكوين دولتهم المستقلة ذات السيادة في حدود 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية، فكان هذا الابتدار والاستهلال في كلمة خادم الحرمين الشريفين بمثابة النسف لكل الادعاءات والتشكيك في مواقف المملكة الثابتة حيال هذه القضية المحورية، والترويج الكاذب لما يعرف بـ«صفقة القرن»، على اعتبارها انحرافًا في مسار المملكة التاريخي عن قضية العرب والمسلمين، ليأتي البيان الختامي مؤكدًا على ما جاء في كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله.

والحال نفسه فيما يتصل بقضية التهديد الإيراني للمنطقة، حيث دعا خادم الحرمين الشريفين في كلمته إلى «موقف دولي موحّد» يلزم النظام الإيراني بوقف أنشطته العدوانية في المنطقة العربية وغيرها، والمتمظهر في دعمه اللوجستي والعسكري لمليشيات الحوثي الإرهابية، وما أحدثته في اليمن من خراب ودمار وزعزعة، ودعمه بالصواريخ البالستية، التي تهدد أمن المملكة بشكل مباشر، ليكون موقف القمة رديفًا ونصيرًا لهذه الدعوة بإدراجها ضمن مصفوفات البيان الختامي.


كذلك تطابق موقف البيان الختامي مع موجهات كلمة خادم الحرمين الشريفين، فيما يتصل بقضية اليمن، وسوريا، وانتشار الأسلحة النووية، والدعوة إلى الانفتاح الاقتصادي والثقافي، والهجرة غير الشرعية، ومحاربة الإرهاب والتطرف، وتجفيف منابعهما، والتعاون في ذلك مع المجتمع الدولي، وما إلى ذلك من قضايا جاءت عليها كلمة الملك سلمان ابتداء، وصاغتها القمة بيانًا - بشكل أو آخر - في خاتمتها، بما يمكننا القول معه إجمالًا إن الثقل الكبير للمملكة العربية السعودية يمثل حجر الزاوية في أي محفل عالمي، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، وقد أكسب حضورها لهذه القمة بعدًا كبيرًا، مقرونًا ذلك مع اللقاءات الثنائية رفيعة المستوى التي عقدها خادم الحرمين الشريفين مع القادة الأوروبيين والعرب، بما وطّد العلاقات وفتح مساحات جديدة للتعاون في كافة المجالات.

إن ما دار في هذه القمة التاريخية من نقاش تناول كافة الجوانب الواشجة بين الدول العربية ونظيراتها الأوروبية، والاتفاق على أطر الحل للقضايا العالقة، وتنسيق مسارات التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، يضعنا أمام تحالف جديد، بوسعنا أن نحلم، ونمد الحلم إلى أبعد احتمال، بأن يتشكّل من هذا التحالف الجديد «قطب ثالث»، يحفظ التوازن العالمي، الذي ظل طوال القرن الماضي وحتى يومنا الراهن، رهنًا لتجاذبات القطبين الرأسمالي والشيوعي، وما صحبهما من حرب باردة، ألقت بظلالها السالبة على مجمل العلاقات بين الدول، حتى في المحيط الإقليمي الواحد، فهذه القمة؛ بما اتسمت به من صراحة في النقاش، وبما اشتملت عليه من توافق في الرؤى، واتفاق في مجمل القضايا الإقليمية والعالمية، يمكننا النظر إليها بوصفها مرتكزًا لتشكيل قطب ثالث يأخذ رسالته الحضارية من واقع شعار القمة نفسه «الاستثمار في الاستقرار»، والمفهوم بداهة أن الوصول إلى «الاستقرار» يعني الانسجام والتوافق وتغليب المصالح المشتركة، واحترام السيادة، وغير ذلك مما هو معروف بداهة، ولن ينقصنا في الوصول إلى هذه الغاية النبيلة بتشكيل القطبية الثالثة سوى إنزال هذه الموجهات التي جاءت في ديباجة البيان الختامي إلى أرض الواقع، والعمل على توثيقها بأشد ما تكون العرى، والنظر إلى ما بعدها بعين تتجاوز التكتيكات المرحلية، إلى البعد الاستراتيجي والاستشرافي، خاصة وأن كلا الطرفين؛ العربي والأوروبي، يملكان المقومات لتحقيق هذه الغاية، من حيث الموارد، والإرادة السياسية، والبعد التاريخي والحضاري، ومثال ذلك منظور في تحركات قيادة المملكة العربية السعودية، ممثلة في خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، حفظهما الله، التي طافت الأرجاء توثيقًا للصلات، وتعميقًا لأواصر التعاون بما يحقق المصالح المشتركة، غربًا وشرقًا، في سياق من رؤية باصرة وضعت المملكة العربية السعودية بحيث يجب أن تكون، مركز الدائرة، ومحط الانطلاق، ومنشأ الرؤية الفكرية، بما يجعل منها - دون شطط - مرتكز القطب الثالث متى ما تحقق وجودًا على أرض الواقع، بثقلها السياسي والاقتصادي، ومورثها الحضاري والثقافي، وحاضرها المتطلع لآفاق تتراحب إلى العام 2030 وما بعده، على نسق منفتح الأبواب والنوافذ، وتعاون يستهدف خير البشرية، ونهضة تحرك كل مفاصل المجتمع وتفجر طاقاته، وتستنهض هممه إلى العمل الدؤوب، وتحقيق الغايات الممكنة.

صفوة القول؛ إن هذه القمة العربية الأوروبية التي احتضنتها مدينة شرم الشيخ، فتحت آفاقًا جديدة لتشكيل حلف منسجم، سيكون للمملكة العربية السعودية دور قيادي متعاظم فيه، يجعلنا نحلم بقطب ثالث يسهم في تدعيم ركائز عالمنا، الذي ظل يتأرجح لزمن ليس بالقصير في عصا التوازن بين الرأسمالية والشيوعية، وسط عواصف من القلاقل ونذر الحرب الوشيكة.

* كاتب سعودي