-A +A
صدقة يحيى فاضل
فكر الاستراتيجيون الأمريكيون كثيرا باللجوء إلى الخيار العسكري لنزع السلاح النووي لكوريا الشمالية بالقوة. فوجود هذا السلاح بحوزة هذه الدولة «الشيوعية» يهدد -في رأي هؤلاء الساسة- الأمن القومي الأمريكي أيما تهديد. إضافة إلى تهديده للأمن القومي لحلفاء أمريكا في شرق آسيا. ولكن هؤلاء الاستراتيجيون استبعدوا -على الأقل في هذه المرحلة- الخيار العسكري، نظرا لما قد ينتج عن اتخاذه من حرب نووية تدمر هذا الجزء من العالم دمارا شاملا. لذلك، كان لا بد من العمل الدبلوماسي، والاقتراب السلمي لأزمة الأسلحة النووية الكورية الشمالية، بما فيها الصواريخ الباليستية. ومن هنا بدأ التفكير والتمهيد للقاء بين الرئيسين الأمريكي والكوري الشمالي. وأصبحت القمة بين دونالد ترمب وكيم جونج أون ضرورية لكسر الحاجز النفسي، وبدء مسيرة تفاوضية سلمية، يبدو أنها ستكون طويلة وشاقة، ومتشعبة.. وقد تمتد لسنوات.

وبالفعل، عقدت القمة الأولى بين الزعيمين (ترمب - أون) في سنغافورة، بتاريخ 12/‏6/‏2018م. ثم التأمت القمة الأمريكية - الكورية الشمالية الثانية يوم الأربعاء 27/‏2/‏2019م، في هانوي عاصمة فيتنام. وبالطبع، ظل موضوعها الرئيس هو نزع أسلحة كوريا الشمالية النووية، امتدادا لمباحثات سنغافورة. وانتهت قمة هانوي بشكل سريع ومفاجئ، ينم عن عدم وصول الجانبين لاتفاق، يحقق لكل منهما ما يريد، أو الحد الأدنى مما يريد. وصرح ترمب عقب الاجتماع بأن المحادثات تعثرت حول العقوبات الاقتصادية، وأن الرئيس «أون» وعد بعدم القيام بتجارب نووية جديدة. واختتمت هذه القمة على وعد بمواصلة المباحثات، التي يتوقع أن تنتهى (لاحقا) بأحد الاحتمالات الثلاثة التالية، إما إلى:


1- نزع السلاح النووي الكوري الشمالي، وتطبيع العلاقات الأمريكية - الكورية الشمالية.

2- أو: إبرام كوريا الشمالية معاهدة سلام وعدم اعتداء مع أمريكا وحلفائها، مع احتفاظ كوريا الشمالية بسلاحها النووي، أو بجزء منه.

3- أو: الفشل في تحقيق أي من الاحتمالين الأولين، والعودة إلى الوضع السابق للأزمة بين البلدين، وضع ما قبل قمة (ترمب - أون) في سنغافورة.

***

أتى ترمب إلى هانوي وهو مصمم على تحقيق المطلب الأمريكي (الاحتمال/‏ الهدف الأول). كان متفائلا بتحقيق هذا الإنجاز في هذه القمة التي خيبت نتائجها آماله. فاضطر لمغادرة فيتنام دون أن يتمكن من الإعلان عن نهاية رسمية للحرب الكورية، كما تطالب بيونغ يانغ. فالزعيم الكوري الشمالي ما زال يرفض نزع سلاح بلاده النووي، ويطالب برفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية. استمرت قمة هانوي يومين، لتنتهي دون اتفاق ملموس حول كيفية نزع أسلحة كوريا الشمالية النووية، والتخلص من صواريخها الباليستية.

بل إن مسؤولين في المخابرات الأمريكية صرحوا، عقب انتهاء قمة هانوي، بأنه: «لا توجد مؤشرات تدل على أن كوريا الشمالية ستتخلى عن كامل سلاحها النووي. فهي تعتبر هذه الأسلحة هي الضمانة لأمنها القومي». ويبدو أن الطرفين ربما يتوصلان، في قمم لاحقة وفى أفضل الأحوال، إلى تحجيم سلاح كوريا الشمالية النووي، ووقف تطويره، مقابل رفع العقوبات عن بيونغ يانغ، و«تطبيع» العلاقات الكورية الشمالية مع أمريكا، وحلفائها، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان.

***

يظل من غير المتوقع أن تتخلى كوريا الشمالية عن سلاحها النووي طوعا وبسهولة، حتى ولو كانت هناك تعهدات أمريكية، بضمان أمن كوريا الشمالية، واستمرار نظامها السياسي الحالي، ورفع العقوبات الاقتصادية، وتقديم دعم للاقتصاد الكوري الشمالي الضعيف. كوريا الشمالية تضع آمالا عراضا على سلاحها النووي، الذى عملت عليه لسنوات، وتأمل، كما يبدو، أن يحقق هذا السلاح لها الأمن وردع أي اعتداء خارجي عليها. هي تعتقد أيضا أن امتلاكها لهذا السلاح يسهم في بقاء نظامها السياسي الشيوعي، وقد يساعد في تحقيق تطلعاتها في «استعادة» كوريا الجنوبية، وتبوؤ مكانة دولية مرموقة. ذلك هو سبب «فشل» قمة هانوي، وليس قرار الديموقراطيين إجراء مقابلة مع «كوهين» محامي ترمب، في يوم القمة - كما ادعى ترمب نفسه.

وسبق أن أوردت شبكة «NBC» الإخبارية الأمريكية (يوم 30 يونيو 2018م) عقب قمة سنغافورة، عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن وكالة الاستخبارات الأمريكية أصدرت تقريرا سريا يشير إلى أن كوريا الشمالية زادت، بشكل سرى، من إنتاج الوقود النووي المستخدم لصنع أسلحة نووية في الأشهر الأخيرة من سنة 2018م. كما زادت من إنتاج اليورانيوم المخصب لأغراض صناعة القنابل النووية، في ذات الفترة. الأمر الذى يبين عدم رغبة كوريا الشمالية الحقيقية للتخلي عن ترسانتها النووية، في المدى القريب، على الأقل. وكل ذلك يخالف ما أبداه الرئيس ترمب من تفاؤل عندما قال: «لم يعد هناك تهديد نووي من كوريا الشمالية». ومعروف أنه ليس من الضروري نزع سلاح كوريا الشمالية النووي حتى يتم تلافي خطرها، أو تهديدها. فاتفاقية سلام وعدم اعتداء كفيلة بإزاحة الخشية من أي تهديد حقيقي.

***

تخلي كوريا الشمالية عن سلاحها النووي قد يعني: انتهاءها وتفككها في المدى الطويل، وربما ابتلاعها من قبل كوريا الجنوبية، أو انصهارها مع الأخيرة. فنزع أسلحتها النووية يثير الكثير من الإشكاليات والتساؤلات لها ولغيرها، والتي أهمها:

- ما الذي يضمن وفاء أمريكا بتعهداتها لكوريا الشمالية؟

- ما الذى يضمن عدم اختراق النظام السياسي الكوري الشمالي الحالي، والعمل على إسقاطه؟

- هل يستحق ما تعرضه أمريكا على كوريا الشمالية التخلي التام عن سلاحها النووي، كسلاح رادع... يسهم في الدفاع عنها وعن نظامها، ويردع أعداءها عن المساس بها؟

- ألا يمكن أن تحتفظ كوريا الشمالية بسلاحها النووي، أو بجزء منه، مع إبرام معاهدة سلام وتعاون مع أمريكا وحلفائها، وخاصة كوريا الجنوبية واليابان؟!

لم تحلّ القمتان بين ترمب وأون هذه الإشكاليات، وكون كل طرف له أهداف متناقضة مع أهداف الطرف الآخر.. وبسبب ما ذكر من إشكاليات، أو عقبات، يتوقع أن تصر حكومة كوريا الشمالية على موقفها الأساسي، ربما مع تقديم «تنازلات» محدودة، تتمثل في: وقف تطوير ما لديها من سلاح نووي، وعدم السعي لامتلاك المزيد. كما قد تتعهد بعدم «تصدير» التقنية والمعدات النووية لأى دولة.

ولن يكون لدى أمريكا من خيار آخر سوى: القبول بكوريا شمالية نووية، تتعهد بإقامة سلام مع أمريكا وحلفائها، وعقد معاهدة تعاون وعدم اعتداء بين الجانبين. وبالتالي، تطبيع العلاقات بين الطرفين، أو: العودة إلى المربع الأول.. وسيادة التوتر الشديد بين كوريا الشمالية وأمريكا وحلفائها، مع احتمال استخدام أمريكا القوة المسلحة للتعامل مع السلاح النووي لكوريا الشمالية، رغم ما يعنيه ذلك من مخاطر فادحة. ويتوقع كثير من المراقبين أن تجنح أمريكا للسلم، وتوافق على احتفاظ كوريا الشمالية بجزء محدود من سلاحها النووي. الأمر الذى سيرسخ انقسام شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين، ويستأصل بؤرة توتر عالمي حاد، وربما يعيد السلام، ولو مؤقتا، إلى شبه الجزيرة الكورية وما جاورها.

* كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com