-A +A
محمد مفتي
أحسنت الدولة صنعاً بقيامها بتنظيم عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك حتى لا تتحول إلى سلطة موازية لسلطة القطاع الأمني، بذريعة حماية الفضيلة والحفاظ على المجتمع وتحت ستار النهي عن المنكر واستئصال شأفته، وهو ما قد يمنحها هيبة تفوق الدور الفعلي المنوط بها، ويعطيها صلاحيات تتجاوز الإطار التنظيمي المحدد لها، ومناعة ضد أي نوع من أنواع النقد والانتقاد لسلوكيات أعضائها ومنتسبيها.

لا يمكننا إنكار دور الهيئة في حدود الإطار المرسوم لها من الدولة، غير أن الأهم في هذا السياق هو الاهتمام البالغ بتنظيم عملها وتقنين إجراءاته، كما أنه من الأهمية بمكان الاهتمام بتدريب منتسبيها على العمل بشكل احترافي مع المواطنين حتى لا تتحول الهيئة لمسرح للإضرار بالآخرين، ذلك أن عمل الهيئة دقيق وحساس، ويتطلب نوعاً من الفطنة وحسن تقدير الأمور وسرعة البديهة واللباقة في آن واحد، ويعتمد على التوازن بين الترغيب والترهيب مع القدرة على التعامل بفعالية مع جمهور عريض.


يقول المولى عز وجل «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله»، وقد لاحظنا بالطبع أن الآية الكريمة بدأت بالأمر بالمعروف ثم بالنهي عن المنكر، لأن غالبية النفوس البشرية تأسرها الطيبة ويؤثر فيها اللين، غير أن البعض الآخر يردعه الخوف أكثر من اللين عن ارتكاب المعصية، لذلك فقد عالجت الآية الكريمة ببلاغة لافتة جانبي النفس البشرية في توازن دقيق، غير أن التجارب المؤلمة السابقة لتاريخ -البعض- من منسوبي الهيئة في المملكة تخبرنا أن هؤلاء تناسوا، بل وتجاهلوا تماماً جانب الترغيب والنصح، وركزوا كل جهودهم في جانب الترهيب والنهي، غير مبالين ولا واعين بأصول النهي وقواعده عندما يتقاطع مع سياق الحياة اليومية للمواطنين المليئة بتعقيداتها.

ربما يتذكر الكثير من المواطنين بالأسى والحسرة المنهج الذي كان يتعامل به بعض رجال الهيئة أثناء نهيهم عن المنكر، وهو منهج درء الشبهات المتعنت الذي تسبب في التضييق على المواطنين، أما الوسيلة التي تم اتباعها لتنفيذ هذا المنهج فكانت القوة في بعض الأحيان، والتي تسببت في حدوث نتائج كارثية أضرت بسمعة الهيئة قبل حتى أن تضر المجتمع نفسه، كمطاردات بعض رجال الهيئة لكل من يشتبهون فيه، وهو ما نتج عنه حوادث مرورية مروعة راح ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم، هذه الوسيلة العنيفة مع اقترانها بالمنهج المتعسف ساهمت في رسم صورة سلبية تماماً للهيئة نفرت المواطنين منها ومن عملها على الرغم من نبل الهدف من إنشائها.

لقد تفاجأت تماماً كما تفاجأ غيري من المحاولات التي جرت قبل فترة من بعض أعضاء مجلس الشورى لفتح ملفات الهيئة مرة أخرى، وهي الملفات التي سبق للدولة الفصل فيها، وقد تعجبت من فحوى تلك الدعوات المطالبة بتوصيات هلامية ضبابية غير محددة الأهداف، لتعزيز دور الهيئة بل وربما إعادتها للحياة مرة أخرى دون الضوابط الصارمة التي فرضت على عملها مؤخراً. في واقع الأمر لا نعرف الدوافع الحقيقية وراء المطالبة بتلك التوصيات ولا نعرف من يقف خلفها بدقة، وهل هي مجرد محاولات للنبش في الدفاتر القديمة والحنين لاسترجاع كل ما هو ماض، أم أن هناك أطرافاً أخرى تسعى لتقويض قرارات الدولة التي طالما انتظرها المجتمع السعودي بفارغ الصبر، مثل السماح للمرأة بالقيادة وتمكينها من العمل في القطاع الخاص، أم أنها في نهاية المطاف محاولة ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على المجتمع للعودة إلى ممارسة توصياتهم مرة أخرى.

لا يعادي أي منا الهيئة ولا نحن ضد عملها، نحن فقط ضد ما يسيء للمواطن وللمجتمع ككل، ونحن مجتمع ناضج وواعٍ، لهذا نرفض مبدأ الوصاية وفرض الرأي بالقوة، ودولتنا دولة مؤسسات بها من الأجهزة الأمنية والرقابية ما يكفي لتنظيم المجتمع وترتيب شؤونه على النحو اللائق، لهذا من العبث أن توجد أي سلطات أخرى موازية لأجهزة الدولة -وخاصة الأمنية منها- تحت ستار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي اعتقادي أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن تظل منبراً دعوياً وأخلاقياً، غير أنه لا ينبغي أن يكون لها نفس دور الجهات الأمنية، ورجاؤنا كمواطنين أن تتدخل الجهات المعنية لتتمكن من فهم حيثيات هذا الاقتراح الأخير، لتظل الهيئة في إطار دورها المنظم والمحدد الذي خططته لها الدولة دونما أي تجاوزات.

* كاتب سعودي