-A +A
فؤاد مصطفى عزب
عندما أعلن الصباح عن وجهه وصلت «القاهرة» عدت بلا فرس ولا سراج، كل ما أحمله هو ماء مطر الذكريات والحنين يسيل على القريحة، يقولون إن للسفر فوائد وإن من أهم فوائده أن تجدد الأشواق، استجاب السائق لطلب الصديق الرفيق الأستاذ «نجيب يماني» والذي كان يرافقني في هذه الرحلة، طلب منه أن يذهب به إلى «المعادي» حيث لديه أغراض تخص عائلة «مصرية» تقيم هناك، كل من درس في «القاهرة» مازال له نسب عائلي في حي ما في «القاهرة» الجمال هنا في «المعادي» هو الأمر السائد، فالمناظر وهندسة الحدائق والنسق البريطاني للشوارع والفيلات القديمة تجعلك تمشي بين أروقة متحف مفتوح من الأشجار الكثيفة، حيث يسكن الدفء والأُنس بين شجر الجميز الذي صنع تاريخه هناك، بين صخب أحياء وشوارع القاهرة، تبدو ضاحية «المعادي» مدينة صمت مدهش تفرق في الخصوصية لعشاق الهدوء والجمال الذين فضلوا الهروب من نار العاصمة واكتظاظها، إلى جنة الأشجار والنباتات والأزهار، كنت أشارك سائق العربة الاستماع «لمحمد الموجي» وهو يشدو «ياغائبا لا يغيب.. أنت القريب البعيد» كل دندنة من الأغنية تنطح رئتي حتى آخر زفرة، وتجعلني أرتشف الغيمة التي تلهث أمامي، كانت قطرات مطر ربيعية خفيفة تسقط على رأسي وجوار فمي وأنا أتطلع من نافذة العربة، كنت آخذ كل قطرة بلساني من بين شفتي كسحلية والتقطها بلساني، تأملت الشرفة الجيرية قبالي وأنا أنتظر عودة «أبي أحمد» تساءلت من فرط سهدي عمن يكون سكانها؟

داهمتني نظرة امرأة بضة ترفع الغسيل خوفا عليها من البلل وتنادي على أحد ما في الشارع، يعود «أبو أحمد» أستمتع باستعراض مظاهر حياة الشارع المصري الغاصة بالبساطة والفرح والطيبة والقناعة، حشود من النمل البشري، بشر يصعدون الأتوبيس لا يتعارفون، وبشر يهبطون من الأتوبيس لا يتوادعون، تشابك أيدي العشاق على كورنيش «النيل» يؤكد أن الحب لا يزعجه نعيق أبواق السيارات، صوت بائع البالون يؤكد أن الحلم مازال قادرا على التحليق في هذه المدينة، بائع الزهور والذي يقف أمام إشارات المرور يؤكد أن مشاوير العمر لا نتحكم في مسيرتها أبدا، الأطفال يبيعون مناديل ورقية ممهورة بعلامة «سمايل» يسوقون لها بنكتة ودعاء وبسمة طفولية يستجيب لها الصخر، نصل «الرتز» يستقبلنا الصديق القديم (رؤوف ظاظا) المصري الطيب، بديع جدا أن يكون لك أصدقاء قدماء، تتمتع بنضج الأيام بينهم، أليست تلك هي ملذات الحياة، يحتضنني أنا و«أبا أحمد» ما أجمل أن تجد في البلد الذي تهبط إليه، إنسانا صدرة بيتك، يحفظ وجهك غيبا مهما تباعد الزمان بكما، يتعلق حبه بحافة خاصرك، ويحيط عنقك بطيبته وحميمته كشال صوف، يرفع أصابعه إن ابتعدت عنه كثيرا في وجهك كتلميذ مشاكس، يتعامل مع الحياة كما يتعامل مع روزمانة الدخان، تألفه يداك وتحمله عيناك كألبوم صور، تتذكر كل صورة منه باشتهاء نقطه عسل، إنسان له عالمه الخاص الذي يعجن فيه الأشياء المتفق عليها بين الناس جميعا على عظمتها وتفاهتها كما تريد أصابعه، هذا هو المصري الحقيقي عندما يحبك، هذه هي أرض الأنس، وللحديث بقيه!


* كاتب سعودي

fouad5azab@gmail.com