-A +A
نجيب يماني
حسنًا فعلت النيابة العامة وهي تكشف في بيانها الضافي ملابسات قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي - رحمه الله -، وتحدد بشكل قاطع الجهات المسؤولة، وتوجه لهم أصابع الاتهام، مطالبة بإنزال عقوبة القتل بحق من أمر وباشر فعل القتل، وهم خمسة موقوفين، بجانب محاكمة الآخرين كلٌّ حسب دوره في الواقعة، وإنزال العقوبة بهم تبعًا لذلك، وبهذا تتحول القضية برمتها من حيز التحقيق إلى القضاء، وتلك ساحة أخرى، نظل متيقنين وواثقين بأن الجميع سيكون تحت مظلة العدل، وستكون الأحكام وفقًا للشريعة الإسلامية الغرّاء.

على أن خطوة البدء في المحاكمة – حسب بيان النيابة العامة – لا تزال مرهونة بالجانب التركي ومدى تعاونه واستجابته للمطلبين اللذين جددتهما النيابة العامة في بيانها؛ والمتمثلين في: «تزويدها بالأدلة والقرائن التي لديهم ومنها أصول كافة التسجيلات الصوتية التي بحوزة الجانب التركي المتعلقة بهذه القضية، وأن يتم توقيع آلية تعاون خاصة بهذه القضية مع الجانب التركي الشقيق لتزويدهم بما تتوصل له التحقيقات من نتائج وفقاً لأحكام النظام وطلب ما لديهم من أدلة وقرائن تدعم أو تتعارض مع ما تم التوصل إليه من نتائج للاستفادة منها ولا تزال النيابة العامة بانتظار ما طُلب منهم»..


وهما مطلبان يتسقان مع الإجراءات النيابية المعمول بها بين الدول، والمنسجمة مع غاية الطرفين في الوصول للحقيقة المجردة بعيدًا عن الأجندات الأخرى، وأن أي تأخير أو مماطلة في هذا الجانب لن تكون في صالح القضية بأي حال من الأحوال، ولن يكون أمام الجانب السعودي سوى المضي في إجراءاته القضائية، مكتفيا بما حصل عليه من اعترافات، وليس بعد الاعتراف من دليل يقوم حجة على مقترف أي جريمة..

إن تجديد هذه المطالبة، والإشارة إلى أن هناك مطالبات سابقة يشي بموقف غير إيجابي من الجانب التركي، خصوصا أن لدى تركيا ــ كما تزعم ــ أدلة مادية، في مقابل اعتماد التحقيق السعودي على «أقوال واعترافات» الموقوفين، وهذا ما يفسر بشكل منطقي تضارب الروايات من الجانب السعودي، كونها تعتمد في الأساس على الأقوال والاعترافات، وصاحبها عرضة للتغير والتبديل، على خلاف كل الذين رأوا في تعدد الروايات السعودية مظهرا من مظاهر التستر والبحث عن «مخارج»، مدفوعين في ذلك بأجندات سياسية ما فتئت تجدف بالقضية إلى محاضنها الآسنة، بحثا عن سهام مسمومة ترمى بها المملكة وقيادتها، حسدًا من عندها، وخبثا في مقاصدها، ولن يوقف هذا العبث سوى تكامل الأدوار وتعاونها بين الجانبين السعودي والتركي، طالما أن الغاية هي الوصول إلى الحقيقة ولا شيء غيرها.

إن المؤشرات العامة – مع توفر حسن النية – تنبي عن مواقف مثيرة للريبة إذا ما وضعت في ميزان التحليل والقراءة التأويلية، فاستمرار بعض الجهات في التلميح بتسجيلات مزعومة، ذهبت ببعض الدوائر العالمية التي استمعت إليها، إلى نفي أن تكون محتوياتها مؤدية إلى الغاية التي يراد تحقيقها عبرها، والاستمرار في نهج التسريبات الذي لا يتناسب مع المنهج السليم في مثل هذه القضايا الجنائية، كل هذه المؤشرات العامة وغيرها، لا تبعث على التفاؤل، ما لم يتم تغيير هذا الأسلوب واعتماد مبدأ الشفافية من جانب الطرف الحائز على الأدلة المادية، بما يهيئ الظروف المثلى والمتكاملة لعقد محاكمة مكتملة الفصول من حيث الاعترافات الشخصية والأدلة المادية المعضدة لها، ليأتي الحكم تأكيدا لقيم العدل، وانتصارًا للشريعة في أنصع صورها.

إن من المهم جدّا أن يدرك جميع المتاجرين بهذه القضية، والساعين نحو جعلها «جريمة سياسية» لتنفيذ أجنداتهم المريبة المفخخة، أنهم بهذا المسلك ينتهكون حرمة نفس قضت ظلما، وتنتظر العدالة التي لن توفرها مثل هذه السلوكيات الصبيانية، بل تحققها الجهود المتجردة للعدل، والجادة في التحقيق، والملتزمة بالشفافية في أداء مهامها، والمتعالية على كل الأساليب الرخيصة التي شهدنا أسوأ فصولها في الفترة الأخيرة، و«طفحت» بها وسائل إعلام دأبت على ادعاء المهنية، وهي خائضة حتى أذنيها في محاضن التآمر، والتكسّب الارتزاقي من هذه القضية، فليتها ترعوي، وتدرك أن القضاء وحده هو الساحة المرجوة لتحقيق العدل، والإنصاف، ورفع الظلم عن القتيل وأسرته بتحقيق شرع الله فيمن قتل «جمال».. وإنها غاية وفرت لها المملكة قيادة ومؤسسات نيابية وعدلية كل الظروف الملائمة، والإمكانات المسخرة، والظروف المواتية، فكانت القيادة كما العهد بها وبأسلافها في الحرص على العدل الذي تأسست عليه المملكة، وقامت عليه أصولها، ورعته مؤسساتها عبر الحقب والعصور السالفة، بما يشيع الطمأنينة ويبعث عليها في محاكمة عادلة، تنصف المظلوم، وتعاقب الظالم بما يستحق، جزاءً وفاقا.

* كاتب سعودي