-A +A
هاني الظاهري
في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1963، وقف الناشط السياسي الأمريكي الملهم مارتن لوثر كينج عند نصب لنكون التذكاري في قلب واشنطن مطلقاً عبارته الشهيرة «I have a dream» – «أنا لدي حُلم»، والتي تحولت منذ تلك اللحظة إلى أيقونة عالمية، وشعار لكل صناع التغيير النهضوي الخلاق في العالم، وهي اليوم ذات العبارة التي ترددها قلوب السعوديين، وهم ينطلقون بسرعة كبيرة لتحقيق رؤية 2030، التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وتم إطلاقها بمباركة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود نهاية أبريل عام 2016.

هذا الحلم السعودي الكبير يمكن اختصاره في كلمات معدودة، تحدده محاور الرؤية الرئيسية وهي (اقتصاد مزدهر، ومجتمع حيوي، ووطن طموح)، أما البرامج التنفيذية للرؤية، فتتلخص في (برنامج التحول الوطني، وبرنامج جودة الحياة، وبرنامج التوازن المالي، وبرنامج صندوق الاستثمارات العامة، وبرنامج التخصيص، وبرنامج تطوير القطاع المالي).. أي وبشكل آخر يمكن القول إن المملكة العربية السعودية قررت أخيراً فتح صندوق كنزها الذي ظل مغلقاً منذ تأسيسها واستثماره بشجاعة كبيرة لصناعة مستقبلها وفق ما تريد هي، لا وفق ما تمليه ظروف الأسواق العالمية، والمستجدات السياسية.


فمن ناحية بناء (الاقتصاد المزدهر) تهدف رؤية 2030 إلى تخليص الدولة من اعتماد اقتصادها بشكل كلي على تصدير النفط، فالسعودية ثرية جداً ببدائل الطاقة المتجددة غير المستغلة، بجانب ثروتها الضخمة من الذهب والفوسفات واليورانيوم، بجانب الإمكانات التجارية الجبارة التي يوفرها موقعها الجغرافي، وثروتها البشرية والثقافية والسياحية شبه المعطلة، ولذلك تستهدف الرؤية بحسب وثيقتها الرسمية رفع نسبة الصادرات غير النفطية من 16% إلى 50% على الأقل من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي، ورفع ترتيب السعودية في مؤشر أداء الخدمات اللوجيستية من المرتبة 49 إلى 25 عالمياً، ورقم 1 إقليمياً، هذا بالإضافة إلى رفع نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة من إجمالي الناتج المحلي من 3.8% إلى المعدل العالمي 5.7%، والانتقال من المركز 25 في مؤشر التنافسية العالمي إلى أحد المراكز الـ10 الأولى، ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى رفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات العامة من 600 مليار إلى ما يزيد على 7 تريليونات ريال سعودي، مع رفع نسبة المحتوى المحلي في قطاع النفط والغاز من 40% إلى 75% ومن المستهدف زيادة حجم الاقتصاد السعودي وانتقاله من المرتبة 19 إلى المراتب الـ15 الأولى على مستوى العالم.

أما في ما يتعلق بالمحور الثاني (المجتمع الحيوي)، فقد احتفل السعوديون قبل أشهر قليلة في عاصمتهم «الرياض» بإطلاق برنامج «جودة الحياة» وسط حضور عدد كبير من الشخصيات الحكومية والإعلامية ومشاهير المجتمع الجديد من الشبان والفتيات الذين حصلوا على أعلى الدرجات العلمية من الجامعات الأوروبية والأمريكية أخيرا، وهذا البرنامج تحديداً يعد أهم البرامج المنبثقة من وثيقة «رؤية السعودية 2030»، ويمثل أساس الحلم السعودي في الجانب الاجتماعي، إذ يفجر الطاقات السياحية والترفيهية والثقافية، بجانب تجويد ورفع مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية بشكل عام، لتوفير بيئة اجتماعية جاذبة وحيوية، وهو يشدد على المساواة بين كل فئات المجتمع في الامتيازات والحقوق، وله انعكاس كبير على جميع جوانب الرؤية السعودية الأخرى المتعلقة بالاقتصاد والسياسة، كما أنه يتبع منهجية علمية في قياس (جودة الحياة) في البلاد، إذ ربطها بمؤشرات عالمية لها وزنها، ما يعطي بلا شك نتائجاً أكثر صدقية ودقة من تقارير الجهات المحلية المرتبطة بالبرنامج. تلك المؤشرات هي «التصنيف العالمي لقابلية العيش الصادر سنوياً عن (ذا إيكونيميست إنتلجنس يونت)، لتصنيف المدن في 140 دولة حسب جودة الحياة الحضرية فيها، ومسح ميرسر /‏Mercer لجودة الحياة الذي يصنف 231 مدينة بناء جودة النقل والبيئة السياسية والاجتماعية والثقافية والخدمات العامة والصحة والبيئة الاقتصادية والمدارس والتعليم والبيئة الطبيعية والسكن وتوفر الوسائل العالمية والمسارح ودور السينما والرياضات والسلع الاستهلاكية والمطاعم والاستجمام، كما اعتمد البرنامج قائمة مجلة مونوكل/‏ Monocle لنمط الحياة كمؤشر قياس، وهي قائمة سنوية تضم أفضل 25 مدينة للمعيشة في العالم، ومؤشر السعادة العالمي الذي يصنف 155 دولة وفقاً لمستويات السعادة، ومؤشر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لجودة الحياة، ومؤشر ARRP لجودة المعيشة».

المحور الثالث من محاور رؤية 2030 «وطن طموح» لا يقل أهمية عن المحورين السابقين، إذ إن من أهدافه رفع مساهمة القطاع غير الربحي في إجمالي الناتج المحلي من أقل من 1% إلى 5%، ورفع نسبة مدخرات الأسر من إجمالي دخلها من 6% إلى 10%، والقفز من المركز 36 إلى المراكز الـ5 الأولى في مؤشر الحكومات الإلكترونية، بجانب القفز من المركز 80 إلى المركز 20 في مؤشر فاعلية الحكومة، وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 ملياراً إلى 1 تريليون ريال سنوياً.

إجمالاً وبناء على ما سبق يمكن القول إن عراب رؤية السعودية 2030 الأمير محمد بن سلمان يصنع -واقعياً وبكل شجاعة- دولة جديدة كلياً في هذه البقعة من العالم، يقوده لذلك طموح كبير جدا لا يمكن أن يوقفه شيء، ففي شهر نوفمبر من العام الماضي سأل الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان الأمير بدهشة عن السبب الذي يجعله يعمل دوماً وكأن «الوقت يداهمه». أجاب الأمير بكل وضوح: «لأنني أخشى أنه في يوم وفاتي سأموت دون أن أحقق ما يدور في ذهني. إن الحياة قصيرة جداً، وقد تحدث الكثير من الأمور، كما أنني حريص جداً على مشاهدته بأم عيني، ولهذا السبب أنا في عجلة من أمري».

وبعد ذلك بأشهر قليلة سألت مقدمة البرنامج الشهير 60 دقيقة على قناة CBS الأمريكية الأمير محمد «هل هناك أي شيء يستطيع إيقافك؟» فأجاب: «الموت فقط»، والحق أن صناع التاريخ العظماء في جميع الحضارات لا يموتون ولا تُمحى آثارهم عبر القرون وإنما تخلد أسماؤهم وتتحول إلى بقع من ضوء عصية على الانطفاء، ومحمد بن سلمان أحد هؤلاء العظماء لأنه رجل امتلك حلماً عظيماً لبلاده وجعل الناس يرددون معه «نحن لدينا حلم».

* كاتب سعودي

Hani_DH@

gm@mem-sa.com