-A +A
حمود أبو طالب
أعرف أنني جئت متأخراً كي أحتفي بـ «الشيول» العظيم الذي دشّن لحظة إسقاط سور الظلم الكبير الذي حاق ببحر جدة، لكني أعتقد أن هذه اللحظة التأريخية قابلة للاحتفاء بها في أي وقت، هي لحظة فارقة، لأنها تتعلق بذاكرة جدة وتأريخها وهواها وعشقها وتفاصيل الناس الذين يقال لهم: كان في جدة بحر..

عندما صدح محمد عبده متغنياً بجدة قال: «اسقي كل البحر من طلّك عذوبة وسرّحي ضيّك عليه» كان أبو نورة يتغنى بجدة زمان، زمان، عندما كان بحرها فضاءً واسعاً عذباً حميماً، لكنه غنّى هذه الأغنية في زمن ينطبق عليه عنوان رواية الكاتبة غادة السمان «لا بحر في بيروت» إذ لم يكن هناك بحر في جدة. كان البحر مغتصباً والموج مصادراً ورائحة البحر لا يشمها سوى الذين احتكروا كل شيء. كان أهل جدة لا يستطيعون حتى استنشاق نسمة البحر، فضلاً عن أن يروه. اغتصبوا البر والبحر ولو كانت السماء تتحول إلى مخططات قابلة للبيع لصعدوا إليها.


لم يحدث ظلم للطبيعة والإنسان في أي مدينة في العالم كما حدث في مدينة جدة، عياناً بياناً، متحدياً كل الأنظمة والقوانين الوضعية والسماوية. مدينة يفصلها عن بحرها سور أعتى من سور الصين العظيم، داخله قلة تسرح وتمرح وكأن الله منحها البحر لوحدها، وخارجه بشر يحومون حول البحر يتصيدون ثغرة في سور لكي يروه ويجددوا علاقتهم به ويعبروا له عن الفقد الأليم الذي أصابهم بغيابه. شكا من شكا وبكى من بكى وكتب من كتب وطالب من طالب زمناً طويلاً، لكن لا شيء حدث، حتى ترسخ اليأس في النفوس وسلم الناس أمرهم لله.

قبل يومين جاء هذا الشيول العظيم ليسجل لحظة تأريخية، أول هدم يفرح به الناس لأنه هدم للظلم والسطوة والطغيان. واصل عملك أيها الشيول المبجّل ولا تبقي سوراً معتدياً ظالماً إلا هدمته، وسوف تكون رمزاً جميلاً في تأريخ جدة يستحق أن يقام له تمثال في المكان الذي بدأ فيه هديرك لتنسف الطوبة الأولى في تلك الأسوار الجائرة.

* كاتب سعودي