-A +A
نجيب يماني
يمّم أبناؤنا وبناتنا شطر دور التعليم النظامية بمراحلها المختلفة، لعام دراسي جديد، تحفّهم الأمنيات الصادقات بالتوفيق والسداد.. كلاكيت ومظهر متكرر.. مع إطلالة كل عام دراسي، تشاغبني أسئلة قلقة، تزداد كلما نظرت إلى هؤلاء الصغار والشباب، وهم «يجرون» الخطى بتكاسل، ورغبة منقوصة، وفتور بائن نحو مدارسهم، بما يكشف إحساسهم الحقيقي، وشعورهم نحو دور التعليم، وانخراطهم فيها من باب الواجب المتعين عليهم، وليس من باب الرغبة والشغف في المعرفة، والاستمتاع بالدرس والتحصيل.. بما يولّد عندي تلك الأسئلة القلقة، يجمعها كلها سؤال عريض، لماذا يستوطن هذا الشعور في أذهان أولادنا تجاه مثابات التعليم.. ولماذا يفضلون عليها الإجازة والفراغ.. ولماذا ينتهي العام الدراسي عندنا بفرح الخلاص، وأكوام من الكتب تستقبلها صناديق القمامة!؟

إن الإجابة تستوجب بحثًا دؤوبًا، وحفرًا عميقًا، يضع في حسبانه متعلقات العملية التعليمية الثلاثة؛ المنهج، والمستهدف، والوسائل.. فمن الواضح أن هذه المتعلقات بها خلل «ما» في منظومتنا التعليمية، ينعكس بشكل سالب على المستهدف (الطلاب والطالبات)، ويجعل من العملية التعليمية برمتها فعلاً اجتراريًا، وواجبًا بلا روح، يفضي إلى شهادات بلا معرفة، وانتقال من فصل إلى فصل بحكم تقادم السنوات.


فعند الحديث عن المنهج، ستصحبنا الدعوات الكثيرة المنادية بضرورة مراجعة المناهج، وتنقيتها مما علق بها من «شوائب» سربها أصحاب الأيديولوجيات المفخخة في زمن «الصحوة»، وباتت مرتكزًا للغلو والتطرف، وتلك قضية تستوجب جهدًا كبيرًا لتلافي أخطارها السابقة، ومترتباتها الحالية، ونواتجها المحتملة مستقبلاً.. كما نادت أصوات أخرى بضرورة مواكبة المناهج، وتحديثها على نحو يتماشى مع روح العصر المطرد، فلم تعد المدارس وحدها هي الجهة التي يستقي منها الطلاب والطالبات معرفتهم وثقافتهم وعلومهم، بل يمكننا القول إن المدارس بمناهجها التعليمية الحالية تكاد تكون الحلقة الأضعف، والجهة المهملة في وعي الطلاب، وهم يتلقون جديدًا عبر كل لحظة مستحدثات التقنية الحديثة، يتجاوز ما هو محفوظ في ذاكرة الكتب والمناهج، بما يجعل من أمر تعاطيهم مع المناهج سلوكًا «اضطراريًا» لنيل الشهادة المطلوبة، والترقي إلى المراحل وفق الروتين المتبع.. ومن هنا تنشأ حالة الفتور بين الطالب والمدرسة..

إن من الضروري أن يدرك واضعو المناهج أن العصر لم يعد عصر «الحفظ والاسترجاع»؛ بل بات عصر البحث والتنقيب والابتكار، فعملية الحفظ باتت تقوم بها شرائح متناهية الصغر، ولم يعد مهمًا أن يشغل المرء مساحة من ذاكرته بها، بل المطلوب أن يُعمل ذهنه في ما يلقي إليه من معلومة، وما يستثار به من إشارات محفزة للابتكار وتقديم الجديد، بما يحرك كافة ملكاته الذهنية، ولا يصرفها للحفظ والاستذكار فقط، فنهاية عملية الحفظ والاستذكار مهما علت شأنًا فلن تقدم جديدًا، ولن تخرّج عالمًا مبتكرًا؛ بل إنها في أحسن الحالات ستقدم لنا «حافظًا» مجوّدًا، ومهما بلغت درجة جودته فإن أصغر شريحة تقنية ستهزم ذاكرته بمحتواها، وسعة مخزونها.. هذا هو عصر اليوم، الذي يجب أن نعي متغيراته جديدًا، ونتفاعل معه بوضع مناهج، وصياغة أسلوب تعليمي مناسب لها. ولعل اللوح الرقمي ما يغني عن طباعة ملايين الكتب الورقية والتي تستهلك الوقت والجهد والمال في الوقت الذي تستطيع أن تختزل كل المناهج في تطبيقات يقرأها الطالب على لوحته الإلكترونية، خاصة أن الرؤية المباركة سيحتفل بها بعد 12 عاما من اليوم لطلبة الصف الأول لهذا العام.

إن عدم مواكبة المناهج للتطور المهول اليوم، والاحتفاظ بذات الوسائل القديمة في إيصال المعرفة للطلاب والطالبات، دون أي محاولة للابتكار والتحديث والمواكبة، واستغلال ما هو متاح من التقنية، وشغف الجميع بها في عملية التعليم، بما يحفّزهم على المعرفة بشكل كبير ومثمر.. فتنشأ الهوة الكبيرة والعزوف، أو الإقبال المنقوص.. فمن الواضح أن البيئة التعليمية، ومحاضنها تحتاج إلى مراجعة شاملة، وتتطلب تغييرًا كبيرًا يستهدفها شكلاً ومضمونًا، بما يجعل منها مكانًا جاذبًا، ومثابة يقصدها الطلاب بكامل الحيوية الروحية والمعنوية، ليجدوا ما يعينهم على المعرفة وترقية المواهب وتنميتها، وفق نهج مدروس، وأسلوب متطور متقدم، واستشراف بصير بمتطلبات الحاضر والمستقبل.

إن التحديات كبيرة، والآمال عريضة، وقد تجلت بوضوح في رؤية المملكة 2030 ويمثل التعليم مرتكزًا مهمًا فيها، بل يكاد يكون العنصر الأكثر أهمية فيها، فلا يمكن إحداث أي تنمية دون النظر إلى العنصر البشري، ومدى قابليته واستعداده لإحداث التغيير المنشود، ومن كان من الأهمية أن نولي العملية التعليمية ما تستحقه، رغم أن الجهات المسؤولة عن التعليم تقدم جهدها في هذا الجانب، لكنه لا يفي بالمطلوب، نحو الأفق الأرحب المنتظر، ولن يحدث جديدًا يشار إليه بإصبع التميز والفرادة، إننا تحتاج إلى قراءة بصيرة ومناقشة مستفيضة لتجارب أمم مثل اليابان وماليزيا والصين، وغيرها، التي غيرت منظومة التعليم فيها بشكل دراماتيكي وجوهري، وخرجت للعالم بمنظومة تعليمية، نرى محصلتها اليوم تطورًا مذهلاً، وتفجيرًا للطاقات الشبابية بشكل يتجاوز حدود المتوقع، هذا الذي يجب أن نضعه في حسباننا إن أردنا لدورنا التعليمية أن تخرج لنا «علماء»، فقد اكتفينا من مخرجاتها من «الكتبة والموظفين» !

* كاتب سعودي