-A +A
إبراهيم إسماعيل كتبي
منذ سنوات خصصت الأمم المتحدة يوما عالميا للسعادة كل عام، وهذا يعني إدراكها لاتساع معاناة البشر من ضغوط متشابكة مع تغيرات العصر المتلاحقة، وأحوال الاقتصاد العالمي وأزماته رغم التقدم الهائل وما تقدمه الحضارة الحديثة للبشرية، لكنها أخذت من الإنسان ما هو أكثر، فقد أربكته وأضعفت قدرته على التكيف مع متناقضات العصر فهربت السعادة من مليارات البشر، وينشغل في البحث عنها الأغنياء منهم والفقراء والأصحاء قبل المرضى.

رغم التقدم العلمي والتقني والابتكارات والاكتشافات والنظريات والعلاجات، لا يزال الكثير من مفاتيح النفس البشرية مجهولة، ولا يزال مفهوم السعادة محيرا لكثير من العلماء والمفكرين، باعتبار أن السعادة ليست شيئا محسوسا إنما شعور داخلي للإنسان يتبدل مع واقع الحياة بين انشراح وكدر، تحقيق أحلام أو تعثرها، تجاوز آلام وصعاب أو ضعف على مواجهتها، لكن أهل العلوم الشرعية ومعهم المتخصصون في العلوم الإنسانية، اتفقوا في هذه المسألة على أن السعادة تكمن أولا في دواخل النفس كالكنز الدفين، وسبيل الإنسان إليها إنما يكون بصدق الإيمان والسعي وبالرضا وراحة البال، وتلك هي المعادلة الصعبة عندما لا يفتش الإنسان في ذاته.


تعقيدات النفس البشرية كثيرة ومعقدة ومتشابكة، والفلاح يكمن في توازنها وتغذيتها بالخير والإيجابية بيقين وإرادة. قال تعالى "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها" إنها رحلة البحث عن الذات، وهي ليست بالسهولة التي عليها محركات البحث الإلكتروني التي تقدم بضغطة زر خدمات معرفية جليلة لمليارات البشر في هذا العصر، إنما محركات السعادة في التقوى والتأمل والتدبر، وإرادة تصويب الأخطاء ومن قبلها تصويب القناعات والمفاهيم القاصرة وضيق الصدر، وهذا لا يجيده البعض في الدنيا كمن لا يجيد حسن الاستفادة من محركات البحث الإلكترونية فيسلك من خلالها إلى ما يفسد عقله وثقافته وطبائعه، لا بالذي فيه إصلاحها واستقامتها وإثراؤها، وهؤلاء يضعون أنفسهم في قوائم الأشقياء.

هنا تكمن أهمية التشبع الروحاني، ومن ثم الطاقة الإيجابية وضرورة تجديدها وتقويتها ليكون الإنسان نافعا لنفسه ولمجتمعه، ويعيش محصنا من الحيرة والقلق وربما من أمراض النفس في هذا العصر على امتداد عالمنا الواسع. أيضا الترويح عن النفس أمر أساسي لتجديد الحيوية والإحساس بالحياة، وكذلك ممارسة الرياضة ولو ساعة من المشي يوميا، ينعش النفس ويجدد الطاقة ويفرغ التراكمات، وينظم التفكير والقدرة على تنظيم الأمور والتفاؤل.

خبرات الحياة ليست فقط في الأعمال إنما أيضا في القدرة على العيش باتزان وإدراك للخطوات حتى لو تعثر خلالها أو تاهت منه لفترة بسبب ضغوط وتقلبات الحياة بكدها وكبدها، وكم من الدروس تعطيها الحياة للإنسان في مشواره بين سراء وضراء، وفي صحته ومرضه وفي العسر واليسر، لكن التعلم من الدروس يأتي متأخرا، وهذا حال البعض للأسف، فلا دروس مجانية في الدنيا، حتى أبناؤنا ونحن نرعاهم ونربيهم ونعلمهم ألف باء الحياة، إلى أن يشبوا عن الطوق، نكتشف أنهم هم من منحونا السعادة وعلمونا الحب والعطف والرعاية، وهذه رحمة من الله تعالى في بذل الصحة والعمر والمال حتى يأخذوا دورهم في الحياة ويتسلموا راية أجيال جديدة لأبناء وأحفاد.

هكذا رحلة البحث عن السعادة طويلة ولا تنتهي. بارك الله في حياتكم وأعماركم وغمركم بالسعادة والرضا.

* كاتب سعودي