-A +A
عبده خال
في شهر رمضان لهذا العام فقدت أكثر من خمسة أصدقاء تغمدهم الله بواسع رحمته.. ليضاف هؤلاء المتوفون إلى قائمة الفقد المادي إلا أن وجودهم في داخلي قائم وراسخ. ولكي أدعم وجودهم وحضورهم في داخلي رافضا فكرة أنهم رحلوا إلى الضفة الأخرى، أحرص أن لا أقوم بحذفهم من جوالي، إذ تبقى أسماؤهم وأرقام هواتفهم كما هي، وهذا نوع من أنواع الحيل النفسية التي أخدع بها عقلي لكي أبقيهم أحياء في الدنيا يعيشون ويرزقون كما هم أحياء في داخلي مع وضع الأعذار أن مشاغل الحياة تبعدنا، وهذه حيلة أمارسها مع نفسي منذ زمن، حيث أبقي أصدقائي بجوار ذاكرتي، وفي المناسبات الاجتماعية أو الدينية وأثناء إرسال رسائل التهنئة أمارس غواية عقلي، بإرسال الرسالة لكل ميت بقي رقم جواله ضمن قائمة الأسماء.. وزيادة في تقبل الغواية أظل أنتظر أن يرد صديقي الميت على رسالتي.

وربما أغرق في اللوم عندما لا أجد ردا على رسالتي، نعم، أمارس هذا الجنون إلى الآن.


تذكرت هذه الممارسة المجنونة عندما اتصل بي الصديق أحمد صادق دياب، شارحاً أن ثمة تسجيلاً تلفزيونياً عن عمدة الصحافة وابن جدة وحبيبها محمد صادق دياب، وأنهى شرحه بأن علي تقديم شهادة عن ذلك الطود، وافقت، وتأخرت عن المجيء خشية أن أصل فلا أجد محمد صادق دياب في استقبالي!

وحمدت الله أنني تأخرت، فأي جنون أن أذهب إلى مكان لا أجد فيه أبا غنوة كما كان هاشا باشا في وجهي، ويبدو أن الصديق أحمد أراد التآمر لإفساد خططي في إبقاء من أحب في أماكنهم من غير أن أشعر بفقدهم وأثبتهم على أنهم أحياء، وأخلق الأعذار بأن التقائي بأحبتي (المتوفين) حال دون إتمامه الانشغال والمشاوير الطويلة.

** **

هذه الدنيا كم من عظيم قبرته، وتلك العظمة يتفاوت ثقلها من خلال من يزنها.

وقد قُبر محمد صادق دياب وأنا أزن عظمة أبو غنوة، تلك العظمة المترعة بخصوبة الأرض.

وإذا كان نيكوس كازانتزاكيس كتب عن رقصة الزوربا في روايته الرائعة، مجيدا وصف أجمل رقصة رقصها كائن ورقي خلقته مخيلة روائي مبدع.. فإن محمد صادق دياب رقص رقصته المبدعة على أرض الواقع، فمحمد هو زوربا الحياة اليومية، فلم يشأ أن يكتب عوالم تضج بالحياة وفضل أن يعبرها شاهدا على عشرات الشخصيات التي فوتها وتركها سارحة في عالمه الحياتي من غير أن تجذبه مخيلته الروائية من المساس بشخصياتها التي عاش معها وبها..

كثيرا ما لمته على تفويت فرصة كتابة تلك الشخصيات وتحويلها من الواقع إلى شخصيات روائية، وفي كل مرة يبتسم ابتسامته غير المكترثة:

- اكتب من يا عبده، فكلهم أصدقائي وجيراني وصحبتي؟

لم يكن أبو غنوة راغبا في قطف حياة الناس الذين عاشرهم وتحويلهم إلى شخصيات روائية، وفضل أن يتركهم في حياتهم، كل منهم يمثل زوربا، محبين للحياة والجمال والطيبة.

وفي كل مرة أطلب منه أن يروي قصة أحد من أصدقائه، أجد أنه يغني بتفاصيل أولئك الأصدقاء، فأصفق كفاً بكف:

- حرام عليك يا محمد.!