-A +A
صدقة يحيى فاضل
ستحل يوم 28 يونيو 2018 م الذكرى السادسة بعد المئة الثالثة لميلاد الفيلسوف السياسي الشهير «جان جاك روسو» (1712م – 1778م). وهو مواطن سويسري من جنيف، ولكن الفرنسيين يصرون على فرنسيته، باعتبار أنه من أصل فرنسي، عرقا، ونظرا للغته الفرنسية التي لم يكتب إلا بها. ولروسو عدة مؤلفات هامة، لعل أبرزها كتابه «العقد الاجتماعي». والفرنسيون يعتبرونه – بحق – من أهم المبشرين بالثورة الفرنسية الشهيرة، وعرابها، ثورة 1789 م. فـ«روسو» هو أهم الذين وضعوا الأسس الفكرية التي قامت عليها تلكم الثورة، التي غيرت المفاهيم السياسية البالية القديمة، في أوروبا، ومن ثم في كل العالم.

وغالبا ما يحتفل الوسط الثقافي الفرنسي والغربي عموما بذكرى ميلاد روسو، سنويا. وهو تقليد غربي، وعالمي، لتكريم المفكرين والعلماء الذين كانت لهم بصمات إيجابية في مسيرة الحضارة البشرية بعامة. وفي مناسبة الاحتفاء بروسو، عادة ما تقيم بلدية جنيف احتفالا ثقافيا، ويتم أثناءه جدل ونقاش حول أفكاره وفلسفته، وتأثيراتها عالميا. وتصدر الصحف الفرنسية الكبرى - عادة - ملاحق تكريمية عن فكر روسو. وبعض هذه الصحف تجعل الاحتفال مناصفة بينه وبين الفيلسوف الفرنسي الآخر الشهير «فولتير».


***

ويعتبر معظم فكر روسو خلاصة الفكر السياسي العالمي بعد عصر النهضة بأوروبا. وهو فكر إنساني أكثر منه غربيا.. لأن ما جاء فيه ينطبق على السلوك السياسي للإنسان في كل مكان وزمان. ومنذ أكثر من قرنين، بدأت تسود العالم نظم سياسية تقوم على مبدأ سيادة الشعب. حدث ذلك بالفعل عقب قيام الثورة الفرنسية المشار إليها. قام في فرنسا، إثر تلك الثورة، نظام برلماني ديموقراطي.. ومن فرنسا أخذت أوروبا.. وبأوروبا اقتدت معظم بلاد العالم، رافضة ما كانت عليه. وها نحن اليوم نرى هذا النوع من الحكومات منتشرا في أغلب أصقاع الأرض.

صحيح، أن أول تطبيق في التاريخ البشري للمبدأ الديموقراطي حصل في اليونان القديمة، أثناء ما سمي بـ«العصر الذهبي لأثينا»، إذ «اكتشف» اليونانيون القدماء – لأول مرة في تاريخ الإنسانية – البديل العملي الممكن للاستبداد، في حوالي سنة 500 ق. م. وعد البعض أهمية ذلك الاكتشاف مماثلة لأهمية اكتشاف الإنسان لـ«النار» و«العجلة»...؟! لأنه ينقذ البشر من شرور الطغيان.

***

بعد تلك التجربة الإغريقية الفريدة، التي لم تدم سوى لعقود معدودة، اختفت الديموقراطية تماما من على وجه الكرة الأرضية، وعاد اليونانيون، في الواقع الفعلي (كغيرهم)، إلى الخضوع للاستبداد المطلق، أسوة ببقية بلاد العالم في تلك الحقب التاريخية. ولكن الفكرة الديموقراطية بقيت حية بقوة في أذهان وأفكار وكتابات الغالبية من فلاسفة السياسة الذين ظهروا بعد انهيار دول المدينة الإغريقية، في أوروبا وغيرها.

واستمرت تلك الفكرة حبرا على الورق، في الكتب – وفي النظرية – وفي جدال فلاسفة السياسة ومناظراتهم لقرون عدة. ثم بدأت تكتسب زخما فكريا وجماهيريا متزايدا بصدور كتابات عدد من أبرز فلاسفة السياسة، وفي مقدمتهم: الفيلسوف الإيطالي «مارسيليو بادو» (1275 – 1342م)، ثم الإنجليزي «جون لوك» (1632 – 1704م)، والفيلسوف الفرنسي «تشارلز دي مونتيسكيو» (1689 – 1755م)، ثم «جان جاك روسو»، الذي بلور فكرة «العقد الاجتماعي» كما جاء بها «هوبز» و«لوك» وغيرهما.

***

ورغم وجود الكثير من نقاط القصور في فلسفة روسو السياسية، التي يبرزها النقد الموضوعي، إلا أنها، وخاصة فكرته التي تتمحور حول «العقد الاجتماعي» المتخيلة، يمكن اعتبارها محصلة شبه نهائية لاقتناع الغرب بخاصة بمبدأ سيادة الشعب، إضافة إلى التأكيد الفكري على مبادئ: الحرية والعدالة والمساواة. بل يذهب البعض إلى اعتبار روسو أيضا رائدا لمبدأ المساواة الاقتصادية والاجتماعية.

ولو تأملنا فلسفة روسو عن العقد الاجتماعي (المفترض) تأملا علميا سياسيا متفحصا، لوجدنا أن معظم النظم السياسية المعاصرة الغربية، وما شابهها، يمكن القول بأنها تجسيد لتلك الفلسفة – بعد إجراء تعديلات عليها، لتتلاءم والواقع الفعلي. تصور – مثلا – فكرة «العقد الاجتماعي» كأصل لوجود الدولة، أو قيامها. وكذلك أفكار «الإرادة العامة» و«الحرية»... الخ. و«الإرادة العامة» تتجسد في السلطة التشريعية، التي يجب – في رأيه – أن تكون لها السيادة المطلقة، ويكون هدفها الرئيس - كما قال - هو حماية الحرية «الطبيعية» للإنسان. عند تصور هذه الأفكار، ومحاولة معرفة الأصل الفلسفي لها، غالبا ما تتطرق فلسفة روسو السياسية إلى ذهن المتأمل أولا. وقد تكون لنا وقفة أخرى مع هذا المفكر.. الذي يجب أن نقرأ أفكاره بانتباه وحذر، وأيضا من منطلق الحكمة ضالة المؤمن.

قال وقلت:

قال لي صديق، بعد أن قرأ هذا المقال: لماذا كتبت عن روسو؟!

قلت: لأن لهذا الرجل تأثيرا هائلا في النظم السياسية الحالية لأغلب دول العالم، ولأنني أتمنى أن «نقلد»، في عالمنا العربي، الغرب في الاحتفاء بعلمائنا ومفكرينا الحقيقيين، أحياء وأمواتا.