-A +A
نجيب يماني
أقف موقف الحيرة المطلقة أمام مصطلح الأدب الإسلامي، فعلى مقدار بحثي استنكاهًا لمرجعية يمكن الوثوق إليها والاطمئنان إلى نواتجها في هذا الصدد، إلا أنني في النهاية أرجع إلى ذات الحيرة والقلق من قبول هذا المصطلح.. بخاصة وأنه مصطلح «طارئ» على الساحة الأدبية العربية، إذ يرجعه البعض إلى الخمسينات من القرن الماضي، ولا يخفى على فطنة المتابع أن هذا المصطلح انسرب إلى الساحة الأدبية مع موجة ظهور ما عرف بـ«الإسلام السياسي»، وكأنها – أو هي على التأكيد – حملة شاملة لتعليق لافتة «إسلامي» على كل الأنشطة الحياتية في المجتمع العربي والمسلم، وهي لافتة تؤكد عوارها وخطل مرجعيتها، وبأنها مصطلح بات في العقل الجمعي مظلة تضم جملة من الجماعات التي تدفع بخطاب يتمسح بأعتاب الدين، والزج به وفق هذا المفهوم باتجاه المعترك السياسي بدوافع مختلفة، ومن زوايا معينة، وحين نضعه في طاولة التشريح النقدي، والتفكيك سندرك أننا أمام مصطلح «مائع»، فما دام هناك «إسلام سياسي» وفق هذا التقسيم المحدد، فمن الضروري أن تكون هناك «إسلاميات» أخرى؛ يصعب تحديدها دون حرج الوقوع في مأثمة التقسيم غير المنضبط، وهذا عين ما وقع فيه من صك هذا المصطلح، وإلا فمن أين استلّ «الإسلام السياسي» من الخطاب الإسلامي. وقد رفض أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري مصطلح أدب إسلامي وسخر منه إذ قال (لا يصح وصف الأدب بالإسلامي إلا إذا كانت المثلوثة إسلامية كون الأدب تجربة إنسانية تقوم على تأثير وتأثر).

تنتابني الحيرة حين أذهب مع المنظرين لهذا المصطلح الطارئ، وأجد أن الجميع يحيلونك إلى تعريف «مائع»، فضفاض، كقولهم: «الأدب الإسلامي هو الأدب الذي وُضع لبيان اعتقاد الإسلام وتعاليمه السمحة بالمعنى الشامل، وهو ما ينبع من روح الإسلام ومبادئه»..


فالإحالة إلى المجهول في «وُضع» تزيد من الحيرة والغموض، من حيث أراد قائلها الإبانة والوضوح، فمن هو الذي وَضع، وفي أي عصر كان ذلك، فالشاهد الماثل لنا في الأدب العربي على مر العصور أن لا أحد من المنظرين استلف لافتة الإسلام وسيّجها لصالح تيار أدبي أو سياسي، وإنما كان ذلك بعد ظهور حركة «الإخوان المسلمين» في الساحة السياسية..

الدكتور عبدالرحمن رأفت باشا وهو يبحث عن تعريف لهذا المصطلح يقول: «الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان وعن وجدان الأديب، تعبيرًا ينبع من التصور الإسلامي للخالق – عز وجل – ومخلوقاته، ولا يجافي القيم الإسلامية».. ويقول الدكتور مأمون النجار «إن الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يقدم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، وهناك يجب التركيز على شرط الأدبية والإسلامية معًا»..

وهكذا، فلا يمكن أن نمسك بتعريف جامع مانع نطمئن إليه ونثق في مرجعيته، فمثل هذه الإحالة إلى روح «الإسلام» وقيمه، كما يزعمون، لا يمكن أن تكون قيمة غفل عنها النقاد ومؤرخو الأدب العربي قديمًا ولم تكن ملمحًا ظاهرًا وبارزًا يمكن تسمية المنتسبين إليه بوضوح وجلية، إذ تخلو كراسات الأدب العربي قديمًا عن هذا المصطلح، فكل أصحاب العقائد الأخرى، السماوية منها والأرضية، لم يدمغوا ناتج الأدب الذي أسهم به منتسبوهم إلى لافتة الديانة التي يعتقدون بها ويؤمنون بخيرها، فلا نظير لمصطلح الأدب الإسلامي في المسيحية أو اليهودية، ولا في الأديان الوضعية كالبوذية مثلاً..

وعلى هذا فإن مصطلح «الأدب الإسلامي» يقف في منطلقة زلقة، على حافة السقوط، إن لم يكن قد سقط بالفعل، وشاهد ذلك يكمن في الخلط المفاهيمي بين «الإسلام» بوصفه عقيدة سماوية، وبين سلوك المنتسبين إليه، ومن بينهم الأدباء الذين يريد لهم المصطلح أن يستظلوا تحت سقفه المثقوب.. فمثل هذه القيم التي يتوسمها منظرو «الأدب الإسلامي» قد تتوفر في أدب لا ينتمي منتجه إلى عقيدة الإسلام ولا ينضوي تحتها بأي آصرة قربى أو مودة، فهل يؤخذ «الناتج الأدبي» ما دام قد استوفى الشروط ويوضع في سلة «الأدب الإسلامي»، وينبذ «مُنْتِجَه» بوصفه «كافرًا» أو من غير «الملة».. ومقلوب الصورة أدعى

إن الحقيقة التي يجب أن نعيها جيدًا أننا لسنا في مسيس الحاجة إلى مثل هذه المصطلحات المحددة لماهية الأدب في اتساع أفقه، وانفتاح براحاته على الإنسانية جمعاء، فما زلنا نقرأ آداب الأمم الأخرى بكل المتعة والجمال، دون أن يخالجنا أدنى شعور أو رغبة في تصنيفها على المستوى العقدي، وإنما الغاية أن نتلمس أدبًا منسجم الروح مع الجمال، قادرًا على تطبيب جراح العالم، مستوفيًا لمستحقات الإبداع المدهش، حافظًا للقيم المرعية في كل العقائد السمحة، وما علينا وقتذاك إن كان مبدعه ومنتجه منتسبًا إلى أي ديانة من الديانات، فما تلك بالقيمة التي نبحث عنها، فلسنا أصحاب أختام، ولسنا من ورثة أصحاب اللافتات المشبوهة.

* كاتب سعودي