-A +A
نجيب يماني
لن أعدو الحقيقة قيد أنملة لو قلت: إنّ توتّر العلاقة بين الرّجل والمرأة في المجتمع السعودي يمثل أحد «إفرازات» حقبة ما يعرف بـ«الصحوة»، وهو قول من اليسير على أيّ دارس اجتماعي أن يخلص إلى حقيقته بسهولة ويسر، لو عقد المقارنة بين ما كان قبلاً، وما صار بعد في معمعة «الصحوة»، حيث لم يعرف مجتمعنا - قبل «طامة الصحوة» - مثل هذه الفوبيا الاجتماعية من المرأة؛ بل كانت العلاقة بين الرجل والمرأة «طبيعية» بقدر ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وفقًا لما أسّست له الأعراف الاجتماعية الراقية، وقرّرته أصول الشرع الحنيف، على قاعدة من احترام متبادل، وصون للحقوق، والإسهام في إعمار الحياة، كلٌّ بما يتيسر له من مواهب، ويستطيعه من جهد وعمل.

وما أن أناخت «الصحوة» بكلكلها على مفاصل المجتمع، حتى صارت المرأة «كائنًا شاذًا» يستوجب أقصى درجات الحذر في التعامل معه، و«حالة» تقتضي «خصوصية» في التعاطي معها بما يقيّد حركتها، ويمنع خروجها، ويقصّ أجنحة أحلامها، بخطاب ديني لوى عنق النصوص لخدمة أجندة هذه الجماعة، وأكسب تصرفاتها القبيحة والشاذة قداسة وحصانة من المساءلة والحساب، في مظهر وكأنه «وأد اجتماعي»، ليس بينه وبين الوأد المادي قديمًا فرق إلا في بقاء الروح في الجسد انتظارًا لانقضاء الأجل المحتوم.. حالة عطّلت المجتمع ردحًا من الزمن، وصرفت وقته وتفكيره في أمور غير مهمة، فيما كان العالم وقتها يمضي قدمًا في التنمية والتطور، مستفيدًا من ثنائية التناغم الضروري بين المرأة والرجل في الحياة، دون تمييز بينهما.


ويُحمد لربان سفينتنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان أن وضعا حدًّا لسطوة هذا التيار الموسوم زيفًا بـ«الصحوة»، وإفساح المجال أمام المرأة السعودية لتبدع في كلّ مجال بلا قيود أو شروط، غير ما هو ثابت في أمور الشرع والعرف الاجتماعي السليم قبل «الصحوة» وأخواتها، لتثمر هذه الخطوة بشارات عظيمة، وتفصح عن «كنز» عطّلناه لزمن طويل، فالمرأة السعودية أصبحت اليوم رقمًا صعبًا في معادلة التنمية، والمساهمة فيها، وأضحت شريكًا رئيسًا مع الرجل، ولا مفاصلة أو مفاضلة بينهما إلا بمقدار العطاء والإنجاز والمعرفة والخبرة، وغير ذلك من مطلوبات المنافسة الشريفة في ساحات العطاء الكثيرة..

ولأن هذا هو الوضع الطبيعي والمفروض أن يكون راسخًا في الوعي الجمعي للمجتمع، فلقد كانت دهشتي كبيرة وأنا أطالع خبرًا عن تحفّظ بعض أعضاء الشورى على استخدام مصطلح «تمكين المرأة» في التوصيات والقرارات الصادرة عن المجلس، وحجتهم في ذلك أنه «مفهوم ملتبس، أو غامض، أو غير ملائم»، مقترحين استخدام مصطلح «رفع مشاركة المرأة» بديلاً عنه.. إن مناط دهشتي متعلّق في الأساس باستمرار هذه العقلية المتوجسة من المرأة، إلى غاية المماحكة في مصطلح أخذ وضعه الطبيعي في سياق حركة المجتمع السعودي الماضية نحو المعافاة الكاملة من «جراح الصحوة»، فأين الالتباس في هذا المصطلح الذي يمثّل ركيزة أساسية في رؤية المملكة 2030، وسمعه أعضاء «الشورى» أنفسهم صريحًا من خادم الحرمين الشريفين، في افتتاح الدورة السابعة للمجلس حين قال: «حرصًا على توسيع قاعدة المشاركة في التنمية الوطنية، فقد واصلت الدولة جهودها في تعزيز تمكين المرأة السعودية من المشاركة في التنمية وصناعة القرار وفقًا للضوابط الشرعية».. أبعد هذا الكلام الواضح البيّن يتحدث بعض أعضاء عن التباس، وغموض وعدم ملاءمة للمصطلح! وحسنًا فعلت عضو مجلس الشورى لطيفة الشعلان، وهي «تفحم» المتحفّظين بالشواهد، والشرح المستنير، والرؤية الباصرة، بما يكفيني مؤونة الدخول في مجادلة حول ماهية المصطلح، ومفضياته، ورأيتني حين قرأت حديثها، تذكرت قول المتنبي:

«فما التأنيث لاسم الشمس عيب *** ولا التذكير فخر للهلال»

إنّ المرء يتوسّم في عضو مجلس الشورى أن يكون وعيه كفؤ هذا الموقع، ومعرفته قائمة على قاعدة موسوعية ما أمكن ذلك، وإلا فلا حرج في «صمته» إن لم يكن له علم في ما يطرح، وإنّما الحرج أن «يتداخل» فيما لا يعرف، و«يتحفّظ» على ما علم له به؛ إلا ما توارثه من خطاب ساد في زمن الغفلة، وشوّه المجتمع بحمولته الأيديولوجية التي يلزمنا عمل دؤوب للتخلّص الكامل من آثارها الكارثية الوخيمة، وهو عمل لا نستطيع إنجازه طالما أنّ بذرة هذا «الفكر» موجودة بصورة أو أخرى فيمن يؤتمنون بالاستشارة، ويعوّل عليهم الإسهام في القضايا بالوعي، خصوصا وأنّ المملكة تشهد تحديات كبيرة في راهنها على كافة المستويات، ومن المخزي أن ينفق مجلس الشورى جزءًا ولو يسيرًا من وقته، وجهدًا ولو ضئيلاً من فكر أعضائه في نقاش أمر من المفترض أن يكون قد أصبح من المسلّمات لأعضائه، المعوّل عليهم إشاعته في أوساط المجتمع كافة بروح الاستنارة المتوسمة فيهم، لا أن يكونوا موضع تشكيك فيه، أو تخذيل بأي صورة كانت..

فيا أيّها «المتحفّظون» على مصطلح «تمكين المرأة»، طالعوا ما قالته لكم «لطيفة الشعلان» بوعي، وما ساقته من حجج وبراهين، وستدركون لحظتها «بعد نظر» القيادة في ضرورة التمكين، اتساقًا مع حركة التاريخ، و«قصر نظركم» بالالتفات إلى الوراء ارتكازًا على لحظة غادرها قطار المملكة دون رجعة، بإذن الله.