-A +A
محمد مفتي
يردد البعض عدداً من العبارات السياسية دون أن يعي مفهومها بدقة على وجه التحديد، ومن أشهر هذه المقولات السائدة مقولة إن الدول الغربية هى دول مؤسسات، ولعلهم يقصدون بذلك أن المتحكم في رسم السياسات العامة وتنفيذها على أرض الواقع عدد من المؤسسات وليس فرداً واحداً، وأن تلك المؤسسات تضم عدداً من الأفراد الذين تجمعهم روابط القانون ولا تجمعهم العلاقات الشخصية، وهو ما يعني بإيجاز أن عملية صنع القرار السياسي في تلك الدول تتميز بالموضوعية والحيادية والإنصاف والشمول.

بطبيعة الحال هذا الوصف النظري صحيح بنسبة كبيرة، ولكن عند التطبيق الواقعي نجد أن ذلك المفهوم الخاص بمؤسسية عملية صنع القرار في الدول الغربية يعتريه الكثير من الاختلاف، فالدول الغربية التي تمتعت بالمؤسسية خلال فترات تاريخها الحديثة أنتجت لنا الكثير من الديكتاتوريات العالمية، أنتجت هتلر وموسولويني وستالين، والذين كانت سياساتهم تتمتع بالمؤسسية الظاهرية وتبشر بمستقبل جديد من الحرية والعدالة والتنمية لشعوبها، فما ذكره هتلر في كتابه «كفاحي» كان يتطرق بقوة لتلك الأمور، غير أنه الكفاح الذي أودى بألمانيا بالفعل للهلاك على النحو الذي نعرفه جميعاً.


ربما تبدو لنا الدول الغربية مشرقة يسودها العدل والحرية، وهى الصورة التي تتردد في مخيلة الكثير من عامة مواطني الدول العربية، ممن لا يتابعون على وجه الدقة طبيعة الحياة السياسية في تلك الدول، فالساسة الغربيون يصلون إلى مناصبهم من خلال الاعتماد على خلفياتهم الحزبية، وقد ينجحون في الانتخابات ليس لكفاءتهم الذاتية بل لمجرد أن أسلافهم من الزعماء السياسيين الآخرين فشلوا في تحقيق أحلام الجماهير، والكثير منهم - وليس كلهم بطبيعة الحال - لا يكون متمرساً بما يكفي في الشؤون السياسية، وخاصة الشؤون السياسية الخارجية للدول الأخرى، كما أن بعضهم يفتقد للياقة الدبلوماسية الكافية ولا يلتزم بالسياسة الخارجية العامة التي تنتهجها دولته، ويغلب عليه اعتقاده الحزبي وقناعاته الشخصية، وهو ما حدث بالفعل مع وزير خارجية ألمانيا الذي يبدو واضحاً للغاية عدم إلمامه بطبيعة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، كما يتجلى كثيراً افتقاره لمعرفة الطرق الدبلوماسية اللائقة في توصيل احتجاجاته للمسؤولين في الدول الأخرى.

في واقع الأمر لا نعرف سبب انحياز وزير الخارجية الألماني لطهران، والملفت للنظر في تصريحه الأخير أنه صدر عقب لقائه بوزير خارجية لبنان المختطف من قبل حزب الله، في دلالة واضحة وصريحة على انحيازه لطرف دون طرف، وعدم معرفته ببؤر الصراع والمناطق المتأججة في منطقة الشرق الأوسط، بل وعدم معرفة من المتسبب في تأجيجها وتصعيدها إلى السطح على هذا النحو.

يسعى وزير الخارجية الألماني للعب على الوتر الزمني في صراع منطقة الشرق الأوسط، وتصوير الأزمة الأخيرة على أنها أزمة حديثة غير مسبوقة، وهو يلح في إيصال رسالة للعالم مفادها أن ما يحدث الآن هو وليد اللحظة، ولو كان الوزير الألماني ملماً بصراعات منطقة الشرق الأوسط على نحو كافٍ لأدرك جيداً أن المتسبب الأول والوحيد في تأجيج هذه الصراعات هو تصرفات إيران العدوانية وأفعالها المشينة، وأن الأزمة الراهنة ليست حديثة ولا طارئة، بل تمتد لقرابة أربعة عقود، وأن سياسة المملكة تجاه طهران ثابتة باختلاف الزمن والملوك الذين تناوبوا على حكم المملكة، وأن أزمة قطر ولبنان الحالية سببها اختطاف طهران لإرادة هاتين الدولتين، ولرفض المملكة أن يكون هناك وصي على سيادتها أو أن تكون دولة تابعة لدولة أخرى.

لا شك أن الحظ لم يحالف وزير الخارجية الألماني هذه المرة، فجاءت تصريحاته خالية من كافة قواعد الذوق واللياقة الدبلوماسية، ونمت عن جهل وفقر معرفي فاضح، كما عبرت عن قدر من التحيز لا يستهان به ضد المملكة على الرغم من الأواصر الطيبة التي تجمع بين البلدين، لقد اختار الوزير الألماني أن يعلق على نحو غير لائق على رد فعل شرعي لحدث غير شرعي، فقد سعت إيران من خلال أذرعها الحوثية لقصف عمق المملكة ومدنها المكتظة بالسكان، ولم يصدر عن الوزير إدانة أو حتى تلميح بالاستنكار، فلماذا يبرز بعض الوقائع ويخفي الأخرى؟ ولماذا يحاسب المملكة على رد الفعل ولا يحاسب طهران على القيام بالفعل ذاته من الأساس؟ نأمل أن تكون هذه التصريحات فردية وغير معبرة عن توجه ألماني عام للحكم على القضايا السياسية في منطقة تعج بالصراعات على هذا النحو السطحي، ونأمل أن تتخذ ألمانيا رد فعل دبلوماسي ملائم في الاعتذار للمملكة عن كافة الإساءات التي وجهها إليها وزير غير مسؤول لدولة في حجم وثقل المملكة.