-A +A
محمد الساعد
عقدان كاملان مرا على انطلاق قناة العربية من 2003 وحتى العام 2023م، القناة التي يمكن أن نطلق عليها «الظالمة والمظلومة»، أما ظالمة فلأنها بالفعل قست على الجسم الإعلامي الشعبوي غير المحايد في تناوله للقضايا العربية والإسلامية والدولية، وخاصة تلك التي تؤثر على المشهد العربي شعبياً وحكوماتياً، ودمرت مصداقية الشعبوية وعرّتها تماماً مما أثار حرباً لا أخلاقية عليها وعلى العاملين فيها، كانت فيه العربية مثالاً للانتهاك الجسيم الذي قام به البعض ليس ضد السعودية ككيان فحسب بل كل ما يحسب عليها أو يمثل قوة ناعمة لها.

وصفت العربية بـ «العبرية» خلال ذروة الصدام في ساحات وشوارع العالم العربي، وصف خبيث لكنه انطلى على الكثيرين وتبناه الأعداء وهم يعلمون، والغوغاء وهم لا يعلمون، أسلوب الاغتيال المعنوي وتشويه الخصوم وإسقاطهم، عادة ما تستخدمه التنظيمات المتطرفة واليسار العالمي، وحتى من المعارضين المختبئين تحت غطاء اليسار تارة أو المقاومة والممانعة تارة أخرى.


كلهم أجمعوا على اغتيال العربية كما يفعلون اليوم بمحاولة اغتيال كل من يخالفهم بوصفه بالمتصهين، ناقلين تهمة حقيقية من عواصم مطبّعة ودول احتضنت؛ إلى تهمة مزورة ضد دول لم تطبّع ولم تحتضن ومع ذلك يصدق الغوغاء أن الأولى مقاومة والثانية مطبّعة.

الإعلام الشعبوي لعب على عواطف الجماهير منذ الخمسينات وحتى ظهور صحيفة الشرق الأوسط نهاية السبعينات تحمل قيم المهنية والمدنية والحياد، ومظلومة لأنها في نهاية الأمر وسيلة إعلامية حُمّلت ما لا تحتمل، واتهمت بما ليس فيها، وكان ذنبها الوحيد أنها حاولت أن تعمل بمهنية ومصداقية بغض النظر عن جودة تلك المهنية، لكنها كانت الأقرب لها.

اتخذت العربية منذ انطلاقها خطاً إعلامياً مستقلاً ومحايداً ومهنياً استلهمته من الخطوط الإعلامية العريضة التي وضع إطارها الأمير سلمان -الملك- منذ نهاية السبعينات لصحف الشركة السعودية للأبحاث - الشرق الأوسط، مجلة المجلة، عرب نيوز، وكذلك مجموعة قنوات ام بي سي-، كونها واجهة من واجهات المملكة وقوة ناعمة تمثل الوجه الحقيقي للسعودية.

ولنكن أكثر حياداً في قراءتنا: هذه ليست محاكمة لأي من تاريخ قناة العربية الداخلي أو لقدرات العالمين أو لمن قادوها، بل إضاءة على تناول الخصوم لخط قناة العربية الإعلامي -الخارجي- على مدى تاريخها.

وكما نجحت الشرق الأوسط مهنياً نجحت العربية إلى حد كبير في مهنيتها، وفي تغطياتها عن الأحداث العربية والعالمية، وجنحت للعقل والمنطق ونأت بنفسها عن الشعبوية.

كان خياراً صعباً -نعم-، ومكلفاً -بالتأكيد-، وعلى وجه الخصوص في فترة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نشط فيها أسامة بن لادن وازدهرت فيها أعمال تنظيم القاعدة، وكانت المنطقة تموج بمخرجات الإسلام السياسي، أما النجوم الذين سادوا المنطقة فحدّث ولا حرج، من سلمان العودة إلى العريفي مروراً بالظواهري والزرقاوي والقرضاوي، وليس انتهاء بسعد البريك والمنجد، وغيرهم من دعاة على أبواب السياسة والتنظيمات والولاءات العابرة.

كان بإمكان العربية مثل غيرها أن تؤيد التطرف وتكون صوته ومنبره وتنافس على اقتسام الجماهير في الشارع العربي والإسلامي التي تحركها العواطف والتفكير الرومانسي، بينما الصفقات الحقيقية تعقد خلف الأبواب المغلقة، لكنها أبت ذلك وانخرطت في مشروع إعلامي سعودي يعبر إلى حد كبير عن التفكير والمزاج الهادئ والمحايد والمستقل عند النخب السياسية والإعلامية وحتى الدينية في المملكة.

عشرون عاماً تلاشى معها وصف القناة بـ «العبرية» لتبقى كما سمّيت أول مرة «العربية»، فهل تغير الشارع والخصوم أم تغيرت العربية؟

في الحقيقة لا تغيرت العربية ولا تغير الخصوم، كل ما في الأمر أن العملاق السعودي توقف عن التغافل والتعالي على طعنات الأصدقاء، والأعداء والأعدقاء؛ ولذلك أصبح الأعداء حذرين في خصومتهم وفي تسديد الطعنات؛ لأن السعودية الجديدة تعمل مع الجميع من مبدأ كيف تعاملني تجدني.