-A +A
طارق الأحمري
في أحد صباحات نهايات عام 2015م، دخل علينا البروفيسور العتيق في مجال الاتصال «بيسلي»، وكنت حينها مبتعثاً من جامعة الملك سعود لدراسة الماجستير في علوم الاتصال في جامعة ولاية مشقن الأمريكية -وهي واحدة من أقوى 3 كليات في العالم على مستوى الاتصال حسب تصنيف شنغهاي الشهير-، بدأ البروفيسور «بيسلي» حديثه عن قصة تعتبر من أقوى حالات تغيير المفاهيم والسلوك في المجتمع الأمريكي، كانت شركات اللحم منزعجة من عدم وجود مبيعات جيدة لها في فترة الصباح وعلى جميع الوجبات، حيث كان المجتمع الأمريكي في الستينات والسبعينات لا تحتوي وجبته على اللحم، فكانت مبيعاتها محصورة فقط على الغداء والعشاء في المطاعم، ولم تكن القضية هنا بحاجة إلى إعلام أو تسويق، بل تحتاج لأكبر من ذلك، وإلى مراحل عملية فيما يعرف بـ«إدارة التغيير». اجتمعت كبريات الشركات الأمريكية للحوم والتقوا حينها شخصاً خطيراً يدعى «إدوارد بيرنيز»، ويعتبر هذا الرجل واحداً من النخبة السرية التي تقود المجتمع الأمريكي فيما يسمونه بالحكومة غير المرئية، واستمد قوته هذه من خاله عالم النفس الشهير «فرويد»، امتزجت لديه قوة الاتصال مع علم النفس، وهذا من أخطر ما يمتلكه الأشخاص في مجال وحقل التواصل، الشركات طلبت من «بيرنيز» لقاء وشرحوا له الأمر، ووعدهم أنه سيضع خطة تغيير لمفاهيم تواجد اللحم على مائدة الإفطار الأمريكية، وستصبح عادة أمريكية مستمرة، بعدها قام «بيرنيز» بالتفكير في كيفية بداية الأمر وإعطائه قوة إقناعية عالية للجماهير بحيث لا يمكن لأحد أن يشكك أو يفشل الموضوع، وماهية طريقة التغيير التي تحتاج مخاطبة مجتمع كامل وتغيير في طريقة سلوكياته وهي أعقد مراحل التغيير، ابتكر «بيرنيز» طريقة ذكية جداً حيث قرر أن يبدأ بالأطباء لقيادة عملية التغيير قبل أي خطوة أخرى، اتفق «بيرنيز» مع مجموعة من الأطباء على إجراء دراسات بحثية وعلمية في المجال الطبي عن أهمية تناول اللحم. وفعلاً قام مجموعة كبيرة من الأطباء والمختصين بوضع دراسات معمقة، ووصلت إلى أن كثيراً من الأطباء يرون أن هناك فائدة عالية من بداية يوم الأشخاص بتناول اللحم وأثره على جسم الإنسان والبروتين صباحاً، وبدوره عمل «بيرنيز» على نشر تلك الدراسات في كبريات الصحف الأمريكية وقتها، وشارك الأطباء في الظهور الاتصالي وتوجيه الرسالة حتى تكون لها موثوقية عالية، وبعدها بدأ الأمريكيون يقبلون بأعداد كبيرة جداً على تناول اللحوم في وجباتهم، وأوعز للشركات أن هذا هو وقت الإعلان وتضمين اللحم بشكل رسمي في قائمة المطاعم، فازدهرت شركات اللحوم بشكل كبير جداً لكن الأقوى هو أن الأمريكيين انتهت لديهم عادة سلوكية امتدت لسنوات طويلة في فكرة الفطور التقليدي القائم على الحبوب والحليب، وهكذا صار «اللحم» أو «البيكون» الوجبة المفضلة ليس فقط في فطور الأمريكيين بل أيضاً في فطور الغربيين جميعاً بفضل معرفة إدارة طريقة التغيير الصحيحة.

القوة اليوم لا تكمن في الإعلام وحده، وفي الرسائل التقليدية المباشرة التي تنتجها كثير من الجهات الحكومية، إن عملية التغيير الحقيقية التي يحدث معها فهم للأسباب من قبل الجمهور المستهدف تكون في الغالب مستقرة ومستمرة وتقل فيها نسبة المخاطر والعوائق، ممارسة الإعلام وطريقة النشر تغيرت بوصلتها باتجاه التواصل المؤسسي القائم على الفهم المتبادل بين جهة ما وجمهورها، ولا يمكن لهذا الفهم أن يحصل دون قدرة جيدة في إدارة اتصال التغيير، ولذلك تقع كثير من الجهات في خطأ صناعة القرار المباشر والإعلان عنه للجمهور دون أي وجود لعملية إدارة التغيير، فيحصل تشويه لتلك القرارات وتلك الرؤى التي قد تكون مهمة وصحيحة، لكن لم يتم خلالها عملية إدارة تغيير شاملة مع الجمهور المستهدف بطريقة صحيحة ومدروسة.


الإعلام اليوم لوحده لا يكفي، وصول الرسالة المباشرة للجمهور دون عمليات مسبقة من التهيئة وفي غياب تام للمرحلية في تطبيق القرار، والاستفادة من الأدوات المساعدة للوصول الفعال يجعل الجمهور المستهدف في حالة ترقب واستغراب وقد لا يتقبل القرار ويأخذ منه موقفاً غير توافقي، وهذا ما يعكس اليوم حالة كبيرة من التوضيحات والبيانات الصحفية لبعض الجهات سواء في القطاع الحكومي أو الخاص أو القطاع غير الربحي، وكثرة البيانات الصحفية بالطبع هي مؤشر ضعف في جودة القرارات والمبادرات والمنتجات، أو في طريقة نقلها للجمهور بشكل مناسب ومحترف.

التواصل المؤسسي بمفهومه الشامل يدعم المرحلية في التخاطب، ودراسة الأثر، واستشارة الجمهور المعني وإشراكه حتى يكون مؤمناً بما تقوم به الجهة، ويخلق حالة من القوة في العلاقة، ويعطي طريقة التخاطب بُعداً مختلفاً بإشراك صاحب الاختصاص في كل علم وفن، ويستفيد من الطرف الثالث في الإعلام بشكل احترافي، إن كثيراً من إدارات الاتصال والإعلام بحاجة إلى تحديثات مستمرة في طريقة الممارسة واتباع التقنية وتجديد الخطاب اللغوي والفني؛ لأن الاتصال علم سريع ومتغير ومرتبط بطريقة حياة الناس في المجتمعات.

الإعلام اليوم لا يكفي لصناعة التغيير، إنه يعتبر نهاية طرفية لقرارات يجب أن تأخذ مجراها في خطط متكاملة ومدروسة، تضمن أن يصل القرار بقابلية للجمهور بعد فهم شامل لأهميته ومصلحة ذلك القرار ومعرفة جوانبه وأسبابه، الإعلام قوي بلا شك وقادر على أن يصل للجمهور، لكن الوصولية مفهوم أصبح من الماضي والانتشار ليس دليل تأثير، إنما التشاركية مع الجمهور والقدرة على أن يكونوا جزءاً من منظومة الانتماء والإحساس بالتقدير هي المرحلة العزيزة في العلاقة مع الجمهور وخصوصاً في أوقات التغيير والتحول.