-A +A
محمد الساعد
إلى أي حد وصل المأزق الروسي في أوكرانيا، وهل هو مأزق بالفعل أم أن الروس قادرون على قلب موازين القوى؟ إن أي حرب هي في نهاية المطاف أموال تحرق على الجبهات، واقتصاد ينزف وشباب يذهب سدى. بلا شك أن «العقيدة» الروسية تلزم حاكم موسكو بالحفاظ على الفضاء الأمني الروسي الذي يبدأ من حدود كوريا الشمالية شرقاً إلى بولندا غرباً، لكن ما حصل خلال عام من الحرب الروسية الأوكرانية، يكشف عقليتين تفكران بطريقتين مختلفتين، العقلية الروسية التقليدية التي تحارب بطريقة الأجداد في سهول سيبيريا قبل آلاف السنين، وبين الغرب «الأكثر خبثاً» والذي يتعامل مع القضايا بعقلية «تشرشل» الإنجليزية، والتي تتعمد إغراق الخصم وحشد الحلفاء وشرب السيجار على جثته، فهل تفعلها لندن وواشنطن مع موسكو كما فعلوها مع هتلر؟ من سينتصر ليست الدبابات ولا الرصاص، بل الدهاء الذي يدير حجر الشطرنج.

تستعد الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها الغربيون خلال الأسابيع القادمة لإرسال حزمة من المساعدات العسكرية النوعية، هذا ليس خبراً جديداً بالتأكيد، فمنذ الأزمة والغرب منحاز تماماً للمعركة التي صنعها ضد الروس.


الجديد أن الأسلحة ستستخدم في السنة الثانية من الصراع المرير، فالباتريوت والدبابات وناقلات الجنود هي أسلحة نوعية ستصل مع بداية شهر مارس القادم وهو يصادف الذكرى الأولى للحرب.

الأمريكان والبريطانيون تحديداً يعرفون كيف يديرون ويهندسون المأزق الروسي، والحديث هنا ليس عمن لديه الحق، ولا من لديه المشروعية، ولا من بدأ الحرب، الحديث هنا عن العقل الغربي وكيف يدير معاركه، فقد حرصت واشنطن على أن لا تخسر روسيا معركتها في أوكرانيا حتى الآن، ولا أن تنتصر أيضاً، بل إنه من المفيد السماح بتحقيق انتصارات روسية هنا وهناك بما لا يؤثر على المسار الكلي للحرب، انتصارات تبقي الروس في دائرة الأمل، وتبقى تراوح في ذلك الوحل حتى تنتحر.

لقد مضى عام كامل انشغل الروس عن تنمية بلادهم وتحسين أوضاعهم، وسخروا فيه جل طاقاتهم وأموالهم لمعركة لن تنتهي قريباً، فالمطلوب غربياً وأمريكيا تحديداً أن تستمرهذه الحرب العبثية لأربع أو خمس سنوات قادمة، حتى «يبرك» الدب الروسي، والأسلحة الجديدة المسلمة مع بداية السنة الثانية للحرب، ستفي بهذا الغرض، وستتم تغذية الطرف الأوكراني بأسلحة ودعم للسنوات القادمة متى ما دعت الحاجة.

العواصم في أوروبا وأمريكا ليست في عجلة من أمرها، وليست حريصة على انتصار سريع في أوكرانيا، فهي تبقى في نهاية الأمر دولة شرقية، صادف أن سكانها يحملون عيوناً خضراء وشعوراً شقراء، لكنهم أبداً لا يحسبون ضمن الطبقة الأولى من سكان أوروبا الغربية وأمريكا، ولذلك لا يوجد مانع من تحويل أوكرانيا إلى مستوعب لحرب عبثية وتدمير بنيتها ومقتل الآلاف من شعبها، فهي البوابة الشرقية للسور الأوربي العظيم، وإغراق الروس فيها مصلحة استراتيجية طويلة المدى.

مستقبل الحرب الأوكرانية الروسية واضح جداً للغرب، فتكلفتهم لا تتعدى التخلص من أسلحة تملأ المستودعات وعلى وشك انتهاء قيمتها العسكرية، وتوزيع الجهد والتكلفة على دول الناتو يساهم في تخفيف العبء المادي عليهم.

إنها سياسة الغرب الدائمة ضد الخصوم (نفس طويل، وتفتيت اقتصادي)، حصلت مع كوبا والعراق ومع الاتحاد السوفيتي قبلهم، وها هي اليوم تدير معركتها من غرف مكيفة في واشنطن ولندن وباريس، بينما يخوض الروس أشرس معاركهم في ميادين أوكرانيا غارقين في الوحل والدماء، اقتصادهم يستنزف، رافعين شعار لا صوت يعلو في موسكو على صوت البندقية.