-A +A
محمد الساعد
عشر وصايا كتبها النرويجيون ذات يوم للتعامل الأمثل مع النفط الذي ظهر فجأة وخشوا أن يختفي في وقت لا ينفع معه الندم، الشعب الصغير في شمال الكرة الأرضية، الذي يعيش في طقس متطرف بارد جداً، ونهار قصير معظم السنة، وجد أنه في عين العالم بعدما أضحى من البلدان الأهم في إنتاج النفط والغاز بداية السبعينات الميلادية.

اكتشف النفط في النرويج بعد فترة انتظار ويأٍس كبيرين أدت لانسحاب معظم الشركات، ووجد النرويجيون أنهم أمام طوفان مالي وتحول اقتصادي وتنموي كبير، من بلد يبيع الأسماك وأخشاب الغابات إلى بلد ينتج النفط والغاز، ما يعني أن أهميتهم ستتزايد في عالم غربي كان يتوق لأن يكون مالكاً لمصادر الطاقة التي تركزت في الشرق الأوسط.


في عام 1990، بعد حوالى عقدين من ظهور النفط، قررت النرويج التخلي عن الاعتماد على إيراداته تماما أو إبقاءها في حدها الأدنى، لقد كانت واحدة من الدول الكبرى في تصدير النفط من حصتها في حقول الشمال والتي شاركتها فيه بريطانيا وهولندا.

كيف بدأت القصة: في عام 1971، اكتشفت شركة فيليبس بتروليوم الأمريكية حقل «إيكو فيسك»، أحد أكبر الحقول البحرية في العالم، ومن المتوقع أن يستمر إنتاج النفط فيه حتى عام 2050.

لم يكن القرار النرويجي بإنشاء صندوق للأجيال، أو لنسميه صندوقاً سيادياً، أمراً ملحاً في تلك الأيام، كما أن الاعتماد على إيرادات النفط كان مغرياً جداً، لكن النرويجيين كان لهم رأي آخر.

لم يسل لعاب الحكومة النرويجية للعائدات الغزيرة للنفط وتعاملت معها بحذر شديد، بل صنفتها كأموال طارئة وغير مستدامة، يقول الجيولوجي العراقي فاروق القاسم؛ الذي عمل مسؤولاً كبيراً في شركة النفط النرويجية ويعد «أبو النفط النرويجي»: «ربما يكون هذا هو الشيء الأكثر حكمة الذي فعلته الحكومة النرويجية على الإطلاق».

لم تنظر النرويج للنفط باعتباره سلعة دائمة، بل اعتبرته كما أنه غير موجود في إيراداتها المالية، وصنعت اقتصاداً مستقلا عنه، وحولت الإيرادات النفطية إلى صندوق سيادي، ليصبح هذا الصندوق ذات يوم هو «حقل الشمال النفطي» الحقيقي.

ولأجل ذلك صاغ البرلمان النرويجي مشروع قانون أصبح يعرف في ما بعد باسم «الوصايا العشر للنفط»، تكون هي الدستور الذي يحكم التعامل مع إيراداته، للسيطرة على إدمان النفط قبل أن يحدث، الوصايا النفطية العشر شكلت السياسة التي أدارت بها النرويج بترولها منذ إقرارها.

لم تكن النرويج بلداً هامشياً بين الدول المنتجة والمصدرة للطاقة، فقد بلغ إنتاج البلاد من النفط الخام -حسب التقارير المنشورة- 1.72 مليون برميل يومياً، عدا إنتاجها المتعاظم من الغاز، ولكن بسبب سياستها المتحفظة يكاد لا يعلم الكثير عن دورها في إمدادات الطاقة.

لكن ماذا عن الصندوق السيادي النرويجي الذي يعد من الأكبر والأعظم حتى اليوم!!

لم تستسلم الحكومة النرويجية لإدمان النفط، فقامت بتأسيس «صندوق النفط» عام 1990 لدعم مواردها المالية على المدى الطويل، خوفاً من انخفاض أو تلاشي الإيرادات النفطية، وهو ما حصل للبريطانيين على سبيل المثال الذين أضحوا اليوم خارج نادي المنتجين، وفي عام 1996، بدأ أوّل تحويل مالي للصندوق بدلاً من وزارة المالية النرويجية ليكون باكورة الإيرادات النفطية؛ التي تراكمت لتمول عمليات الصندوق ولتكون هي المورد الأساسي للبلاد.

في ظروف مشابهة لاكتشاف النفط النرويجي، ولكن قبلها بأربعة عقود، استخرجت السعودية النفط عام 1938 بعد يأس استمر لسبع سنوات، ليتحول إلى أهم مورد مالي للدولة الفقيرة والمترامية الأطراف والساعية لإحداث تنمية كبرى في بلد صحراوي قاحل.

لكن السؤال الذي لطالما طرح في كواليس الحكومة السعودية وعند النخب: هل سيبقى النفط للأبد؟؟ وربما السؤال الأصعب، هل ستستمر أهميته في العالم للأبد؟؟ لا شك أن كلا السؤالين يؤديان لنفس النتيجة، وهذا يعني: إذا لم يكن هناك بديل مالي جاهز فإن الدول المدمنة للنفط والمعتمدة على إيراداته ستجد نفسها في مهب الريح وفي ضع اقتصادي صعب، ولعل تقلبات أسعار النفط منذ الثمانينات إلى الآن خير دليل، فإذا ارتفعت المداخيل ارتاحت الدول، وإذا تقلصت «شدت الحزام» وتراجعت التنمية.

أسست المملكة العربية السعودية سنة 1971 صندوقها السيادي كذراع استثماري بعد تعاظم العوائد النفطية، لكنه بقي في زاوية صغيرة من زوايا وزارة المالية، ولم يعط أهميته الكبيرة إلا مع تولي الأمير محمد بن سلمان -ولي العهد السعودي- مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية عام 2015، واضعاً رؤيته الملهمة ومحولاً الصندوق إلى ذراع مالي واستثماري ثقيل تستطيع أن يكفي السعودية من احتياجاتها المالية ذات يوم.

وكأن التجربة النرويجية تتكرر في السعودية، ولكن مع حركة وديناميكية أسرع، إذ تحول الصندوق السعودي وفي غضون أقل من سبع سنوات إلى واحد من بين أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم، فهو يحتل المركز الخامس بإجمالي أصول تقدر بـ620 مليار دولار، حسب تقديرات نشرت في أبريل 2022 الفائت.

وكما نجحت التجربة النرويجية، يأتي تعظيم دور صندوق الاستثمارات العامة، والتوظيف الممتاز للإمكانات السياحية والاقتصادية واللوجستية والدينية بهدف التخلي التدريجي عن عائدات النفط، ولتأتي موارد المملكة المالية من مشاريعها العملاقة في نيوم وجزر البحر الأحمر والسودة والقدية ووسط جدة، ومن التحول إلى واحدة من الوجهات السياحية الأولى حول العالم، ما يضمن إيرادات مستدامة تغطي الحاجات التنموية الملحة للسعوديين، الذين يسعون أن تكون بلادهم قائدة لقطار النهضة في الشرق الأوسط.