-A +A
محمد مفتي
في خضم الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، انشغل العالم بالحرب الدائرة بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة، وفي واقع الأمر يتكرر الصراع بين الطرفين كل فترة من الزمن مما ينذر بوجود أزمة كامنة تحت السطح لم تجد طريقاً للحل حتى يومنا هذا، وذلك على الرغم من الرحلة الطويلة المتعثرة لمفاوضات السلام التي بدأت قبل أربعة عقود بين الأطراف العربية من جهة والطرف الإسرائيلي من جهة أخرى، غير أن اندلاع مثل هذا الصراع يؤكد أن هناك جروحاً لم تندمل بعد، ومع تعثر مفاوضات السلام فإن النتيجة هي أن منطقة الشرق الأوسط لن تشهد استقراراً وسلاماً حقيقياً في الوقت القريب.

عادة ما يسبق الصراع بين الطرفين تبادل الاتهامات قبل أن يبدأ الصراع العسكري ليدك كل طرف الطرف الآخر؛ إلا أن الآلة العسكرية الإسرائيلية تتفوق على نظيرتها عدة وعتاداً، ويصاحب ذلك خسارة كبيرة بين المدنيين وخاصة في الجانب الفلسطيني، تبدأ بعدها الوساطات الدولية والإقليمية في تهدئة الجانبين حتى يتم التوصل لاتفاق بوقف إطلاق النار، فتسود حالة سكون مشحونة بالصراعات الخفية أشهراً عدة، وتبقى أسباب الأزمة باقية مشتعلة تحت الرماد، في أهبة الاستعداد للانفجار لتتكرر الأزمة عاماً بعد عام دون التوصل لأي حل حقيقي.


تعتمد إسرائيل كثيراً على قبتها الحديدية معتقدة أنها قادرة على حمايتها من الصواريخ الفلسطينية ومن غضب الفلسطينيين المحتدم، لكن القبة الحديدية مهما بلغت قوتها وسعة انتشارها لن تتمكن من حماية الإسرائيليين فعلياً سواء على المدى القريب أو البعيد، فعلى المدى القصير يتضرر الاقتصاد الإسرائيلي كثيراً بسبب استهداف الصواريخ المنطلقة من غزة الأراضي الإسرائيلية، مما يدفع الكثير من القطاعات الاقتصادية في إسرائيل للشلل، كما أن القلق من الهجوم الفلسطيني المحتمل يكبد الموازنة الإسرائيلية الكثير؛ كونها مضطرة لزيادة الإنفاق على القطاع العسكري لمواجهة تلك الهجمات المحتملة، بخلاف الأضرار النفسية والاجتماعية التي تنتاب المواطنين الإسرائيليين بسبب الخوف والهلع من الأضرار الجسيمة التي قد تلحق بهم جراء تساقط تلك الصواريخ.

غير أنه على المدى الطويل فمن المؤكد أن التقنية التي أتت بالقبة الحديدية قادرة على أن تأتي بالتقنيات القادرة على اختراقها، فالعلم يتطور على نحو مذهل، فجديده كثير ومتزايد يوماً بعد اليوم، وقد بدأت الكثير من الدول حالياً في تبني وتوطين الصناعات العسكرية الحديثة والمتطورة وبيعها أو حتى تهريبها للأطراف الراغبة في الشراء، وقد تستيقظ إسرائيل ذات يوم لتجد الفلسطينيين وقد امتلكوا من الأسلحة ما يمكِّنهم من اختراق تلك القبة، وقد يكون هذا اليوم قريباً جداً، ومهما بلغت التقنية العسكرية الإسرائيلية من تفوق فإنها ستقف عاجزة عن استيعاب الغضب الشعبي العربي المحتدم داخل الأراضي المحتلة وخارجها.

من المؤكد أن هذه المسوغات تقودنا لخلاصة؛ وهي أن الحل الحقيقي لحماية المنطقة سواء من الانخراط في الصراعات العسكرية المهلكة أو من الإنفاق المبالغ فيه على الاستعدادات العسكرية هو اللجوء لطاولة المفاوضات للوصول لحلول ترضي جميع الأطراف، غير أن إسرائيل -للأسف- لا تفكر إلا بمنطق القوة العسكرية، وتعتقد أن وقوع مزيد من الضحايا سيدفع الجانبين العربي والفلسطيني للإذعان لشروط السلام الإسرائيلية، ولو عدنا بذاكرتنا قليلاً لما قبل نشأة دولة إسرائيل، فسنجدها وقد شرعت في انتهاج سياسة التهجير لأعداد كبيرة من اليهود للأراضي الفلسطينية بهدف تغيير التركيبة السكانية هناك، وخلال فترة الانتداب البريطاني لم توجد بالأراضي الفلسطينية قوات إسرائيلية عسكرية نظامية، بل انتشرت ميدانياً -وقتذاك- المليشيات المسلحة مثل الأرجون والهاجانة، التي أصبح زعماؤها فيما بعد رؤساء للدولة.

هذه المليشيات لم تلجأ يوماً للتفاوض أو تجنح للسلم، بل ارتكبت الكثير من المجازر المروعة بحق أبناء الشعب الفلسطيني لحثهم على الرحيل وتفريغ الأراضي الفلسطينية من أهلها، واستبدالهم باليهود المهجرين من كافة أنحاء العالم، وبعد عمليات الترحيل القسري لأصحاب الأرض سعت إسرائيل لتكريس سياسة وضع اليد، لتُدخل في حوزتها جميع الأراضي الفلسطينية المغتصبة بشكل قانوني، ولتثبيت تلك السياسة قامت بمهاجمة جيرانها وارتكاب مجازر دامية بحق شعوبها.

يذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون في أحد لقاءاته بإحدى القنوات الغربية أنه تلقى نصيحة من بن جوريون -مؤسس دولة إسرائيل- مفادها أنه يتوجب عليه عدم الاكتراث بما يقال عن إسرائيل بالخارج، في إشارة واضحة للنهج الذي تنوي إسرائيل انتهاجه على المدى البعيد، وهو أنه لا يتعين عليه أن يكترث لأي هجوم موجه لإسرائيل من أي طرف، فالمهم هو أن تطبق سياساتها وتحقق أهدافها، وهي بالفعل السياسة التي انتهجتها إسرائيل على مدار عمرها القصير، وتزعم إسرائيل أنها تريد السلام وتسعى له، غير أن هذا الزعم لا تؤيده أي براهين، فهو مجرد دعاية تلوكها لتحقق منافع جمة منها، فإسرائيل تريد السلام بشروطها، وهي فعلياً شروط مجحفة وغير عادلة، وهي السبب في توقف وتعثر جميع مفاوضات السلام التي أبرمتها.

من غير المقبول أن تستخدم إسرائيل السلام بهدف المناورة فقط لكسب المزيد من الوقت لفرض واقع تريده هي، فإسرائيل لا يمكنها أن تعقد اتفاق سلام باليد اليمنى في الوقت الذي تدك فيه الشعب الفلسطيني باليد اليسرى، نعم نريد سلاماً، ولكننا نريده سلاماً غير مجحف، سلاماً ينطلق من مبدأ حفظ حقوق الفلسطينيين المشروعة، وعلى إسرائيل أن تعي أن القدس قضية إسلامية في المقام الأول والأخير قبل أن تكون قضية عربية، وبالتالي فمهما اجتهدت في طمس الهوية الإسلامية للقضية الفلسطينية لن تتمكن من تحدي العالم الإسلامي بأكمله؛ ولهذا عليها أن تؤمن بأن القبة الحقيقية التي ستحمي سماءها وأرضها بالفعل هي التنازل عن التعسف، والعودة للحل السلمي ولخيار التفاوض الشامل والعادل.

تراهن القيادات الإسرائيلية الحالية على تفرق العرب وانقسامهم، غير أنهم لو عادوا للوراء قليلاً وتحديداً لحرب أكتوبر 1973 لوجدوا أن العرب -وقتذاك- نبذوا خلافاتهم ووضعوها جانباً؛ قيادة وشعباً، واجتمعوا على تأييد الحرب ضد إسرائيل بل وعلى نحو مطلق أيضاً، وهو ما أدركه زعماء إسرائيل السابقون كبيجين ورابين، ويذكر التاريخ ما سردته جولدا مائير -التي سقطت حكومتها بعد حرب أكتوبر- في مذكراتها «لم تكن الصدمة في الطريقة التي بدأت بها الحرب فقط، ولكنها كانت في حقيقة أن معظم تقديراتنا الأساسية ثبت خطؤها».