-A +A
علي بن محمد الرباعي
جيّد أن تفتح مناسبة شعائرية أعيننا، وتُشرع نوافذ وعينا على مسيرة وسيرة ومواقف الخلَف والسلَف، فالماضي مُنتِج للحاضر، الذي هو امتداد لما سبق.. كما أن إخضاع واقعنا لمجهر النقد خطوة في درب التغيير والإصلاح، علماً أن ملاحظة المُحب المنتمي لا تعني التنقص، ولا البراءة مما هو في جيناتنا لازب.

لا أظن العروبة نسباً أو انتساباً فقط، فالعربي ابن لغة، وتاريخ، وجغرافيا، وتضاريس، ومناخ، وشراكة في مصير، وأشياء أُخرى، مما يُشكّل المزاج الحاد، والمعتدل، والمُتقلّب، والقشرة الرقيقة، لا يُستبعد أن يكون تحتها بركان، والملمس ظاهر النعومة له باطن خشن، والقاعدة، لا يلغيها الاستثناء، بل يؤكدها.


للعرب سمات، وصفات، وخصائص مُشاهدة ومسموعة ومقروءة، ومما توارثناه (تنافس المعاصرة) الذي يولّد الحسد، ويفطر الغيرة العمياء حد إلغاء المُنافِس مادةً وروحاً وعقلاً، ولا نُنكر أنّ للعرب أخلاقهم المحمودة، ومنها؛ (النخوة) و(الكرم)، وإن كان البعض سريع الغضب، كاره التحكم فيما جُبل عليه من الاستقلال والعنتريات، ولعل مرد ذلك إلى القلق الدائم على شُح الموارد، أو شعور بنقص ما، يولّد تقطيب الوجه، وغلظة القول، وقسوة القلب، والحرص على الانتقام، مما يُعد وسائل لتنفيس احتقانات، والذود عن حياض مصادر حياة يخشى انقطاعها أو انتزاعها.

ويصف البعضُ العرب بـ(شرابة دم)، وهو وصف يُطلق على من لا يهاب الموت، أو ارتقى درجة عالية من الشجاعة، ويمكننا تفهّم ذلك، في مقام لم تقم فيه بعدُ للعرب دولة، وكان المثل القائل (كلاً ذراعه تحميه) منطقاً واقعاً، بحكم غياب قانون العدل والمرجعية النظامية، إلا أن أجَلَّ نعمة، وأعظم مكتسب، يتمثّلُ في ما وهبنا الله من دولة وطنية، غدت حصننا الحصين، ومكّنت للدنيا والدِّين.

وفي يوم عاشوراء، وبمناسبة تجلي مظاهر اليوم في عالمنا العربي، تلبستني فكرة المُراجعات، انطلاقاً من سؤال (هل العرب عُشّاق صراعات)؟ وما سبب هذا العشق إن وُجد وثبتت صحته؟، ولا مناص من تصفّح أسفار التاريخ، واستعادة ما كان من حروب قبل عهد النبوة، (داحس والغبراء)، وما عُرف باسم «الأيام»، إذ لم يشغل بعض يوميات حياة أسلافنا سوى الانتقال من دم إلى دم، وكأنما الثأر شريعة، يُحرّمون لأجله على أنفسهم الطيب والخمر والنساء إلى أن يأخذوا بثأرهم ممن تطاول عليهم، وجاء من ألبس الثأر لبوساً دينياً، وبما أن العرب مادة الإسلام الأولى، ومُغذٍّ من مغذياته، تركوا أثراً بشعاً في شفافية الدِّين الربّاني، ولا غرابة أن نعيش مع من يتقربون إلى الله بتصفية الحسابات، ونعايشهم.

يكاد يفقد العربي روح الانسجام مع المؤسسة، ولربما كان ذلك بسبب الجينات الأولى المكتسبة من آباء لا يؤمنون بسُلطة تقيّد حُريّة التنقل للبحث عن ماء وكلأ، وربما يتحفّظ البعض على معطيات ومزايا ربانية أو تاريخية، وقَبلُ ثارت ثائرة بني أميّة على بني هاشم بسبب ظهور النبوّة من نسل المُنافس الأزلي، وارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام بمجرد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، بتبريرات اقتصادية واجتماعية.

وأتساءل: هل مر عصر لم يتصارع فيه العرب؟ وكم حرب خاضها العربُ ضد بعضهم قبل الإسلام؟ وما عدد حروبهم لبعضهم بعد الإسلام؟ ولو أجرينا استقصاءً، أو حصراً، أو إحصاءً للحرب ضد بعضهم، والحروب ضد أعدائهم الحقيقيين والافتراضيين، فكم ستكون نسبة هذه إلى تلك؟

لربما صاغت وجدان العربي الأول ظروفه القاسية، في ظل ما سكنه من خوف، وما تقمّصه من توجّس وخشية؛ سببها عدوانية بقية الكائنات عليه، والساكن في صحراء مهجوس بأخذ الاحتياطات، من حمل السلاح، وتخفيف النوم ليكون نومه نوم ذئب (ينامُ بإحدى مقلتيه ويتقي، بأُخرى المنايا فهو يقظان نائم)، ووضع أصبعه على الزناد، إذ هو عُرْضة احتمالات أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، أو سالباً أو مسلوباً.. وإن فشل في الدفاع والمقاومة يلجأ للندب، واستنبات الأحزان، وترديد الأشعار، والأناشيد المؤججة نيران عاطفة لا تخمد بساخن الدموع.

ولا ريب أن هناك عراقيل وعوائق حالت دون التمدين، والتحضر، ما أذكى فينا شعلة ردود الأفعال الحانقة، حتى في النُخب، ولنا حق التساؤل: لماذا يلجأ العربي إلى القتل، والتفجير، والتدمير، للآخر ولوطنه أحياناً؟ هل سبب ذلك العجز؟ ربما، فالعاجز عن مجاراة غيره لا يؤمن إلا بردة الفعل الحمقاء، فيستعمل يده، وعصاه، عوضاً عن دماغه، ورؤاه.

ومن حروب العرب المعاصرة (الحروب الكلامية) ولا أُبالغ إن قُلتُ إن أفظع هجاء، وأوجع تعييب، وأبشع لوم يمكن أن نسمعه في يومياتنا يصدر عن أخ يشتم أخاه، أو ابن عم يقدح في ابن عمه، وكأنما الصراع والحرب ضرورة تنطلق من دائرة الأقرب ثم تتسع، لتشمل الأبعد، حتى أن أحدنا لو لم يجد إلا محاربة نفسه لحاربها!

نستعيد في يوم عاشوراء ذكرى موسى -عليه السلام- مع الظالم فرعون، ونصوم شكراً لله على نجاته، لكنّ بعضنا لا يتورّع عن الظُّلم، ونبكي ونتباكى لمقتل الحسين رضي الله عنه، إلا أن البعض لا يرعوي عن الغيّ والبغي والعدوان.

نحن إزاء إشكالية تحتاج دراساتٍ معمّقةً، وتشخيصاً مستمراً، لتوفير علاج ناجع، ولُقاحات مُحصِّنة؛ لننقذ أجيال المستقبل من تدمير أنفسهم ومجتمعاتهم باسم الأديان، والطوائف، والمذاهب، والحميّة المُنفلِتة، خصوصاً ونحن نكادُ نُجمع على أن أخلاق العرب منذ وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، ليست أخلاق نبيّهم.