-A +A
وفاء الرشيد
احضر كوباً من الشاي واستعد لمقال ثقيل...

بعد موجة التطرف والتشدد الديني، التي عانى منها كثيرا مجتمعنا في العقود الماضية، يواجه بعض شبابنا موجة مقابلة لا تقل تطرفا وتحجرا من الأولى، وهي موجة الإلحاد والعداء للدين، باسم الحرية والتنوير والتقدم.


هل يمكن للعلم أن ينافس الدين في تفسير نظرية الكون وتأسيس القيم والأخلاق؟

لا يمكن لعقل مفكر أن يناقش هذه الحالة بدون أن يطرح الأسئلة التي تسندها الفلسفة لمناقشة الدين والإلحاد والعلم.. فهذه الموجة ظهرت في فترة تراجعت فيها الفلسفات والأيديولوجيات المناوئة للدين في الغرب نفسه! الفلسفات التي تركزت حول الفلسفة الوضعية والأيديولوجيا الماركسية.

لمن لا يعرف الفلسفة الوضعية، فهي محطة العلم التجريبي.. فقد شاعت أطروحة أوجست كونت في مراحل تطور العقل الإنساني من المرحلة اللاهوتية إلى الميتافيزيقية انتهاء بالمرحلة الوضعية. إنها النظرية التي استند عليها فلاسفة الوضعية المنطقية في القرن الماضي في حصرهم الحقيقة بالنظرة التجريبية الموضوعية ومن ثم إلغاء أحكام الدين بصفتها «لغوا خاليا من المعنى»!

نفذت هذه الأطروحة في الفكر العربي في صيغتها أولاً لدى سلامة موسى، التي تركزت على مقولة التطور ودور العلم في «تحرير العقل من الغيبيات»، وبرزت الصيغة الثانية في كتابات زكي نجيب محمود الأولى وبصفة خاصة كتابه «خرافة الميتافيزيقا» الصادر عام 1953.

إلا أن فلسفة العلوم المعاصرة قد نسفت جذريا هذه النظرية، مبينة أن العلم لا يمكن أن ينافس الدين في تفسير الكون وتأسيس القيم والأخلاق، لأنه يعتمد على أسلوب التطبيق التجريبي المخبري الذي لا علاقة له بحقائق الأشياء وقوانين الطبيعة، بل إن غرضه هو النجاعة والملاءمة لا اليقين أو المعرفة العقلية الموضوعية (أحيل هنا إلى كتاب كارل بوبر منطق الاكتشاف العلمي الذي هو من أهم ما كتب في التفكير العلمي الجديد في ضوء النظريات الفيزيائية والكيميائية الراهنة).

لقد تخلى أهم فلاسفة الوضعية الجدد فتغنشتاين في أعماله الأخيرة عن النقد الديني وانفتح على الإيمان في سياق تجربة المعنى والتعبير، كما أن زكي نجيب محمود في كتبه المنشورة في سنوات عمره الأخيرة انفتح على الدين وآمن بأنه من حاجيات الإنسان الثابتة التي لا غنى عنها ولا يمكن تعويضها بالعلم أو التقنية.

أما الماركسية التي حاربت الدين واعتبرته حسب عبارة ماركس نفسه «أفيون الشعوب»، فقد أرغمت على إعادة الاعتبار للظاهرة الدينية، كما برز بقوة في فكر الفيلسوف الماركسي الإيطالي غرامشي وفي «لاهوت التحرير» في أمريكا الجنوبية، الذي هو اتجاه لاهوتي من داخل اليسار الماركسي. فلم تنجح محاولة صادق جلال العظم في كتابه الشهير «نقد الفكر الديني» الصادر عام 1969 نشر الإلحاد في العالم العربي من منظور ماركسي، وظهر أن ما تدعيه الماركسية من اكتشاف لقوانين التاريخ وما تراهن عليه من حتمية انتصار رؤيتها الثورية كله أوهام.

بل إن رجيس دوبريه الماركسي الثوري السابق اعتبر في كتابه «نقد العقل السياسي»، أن الماركسية نفسها عقيدة غيبية لا تختلف عن الأديان في عقائدها وشعائرها وإن ادعت الإلحاد والخروج من الدين.

لم يعد أحد له أهمية في الغرب يدافع عن الإلحاد، أو يدعي أنه يمكن أن يقضي على الاعتقاد الديني من منظور الفلسفة أو العلم.. لقد أصبح من الواضح أن الاعتقاد الديني خيار حر وعقلاني، لا يمنع التقدم والتحرر والتنوير، بل هو على الأصح القوة الدافعة لهذه القيم التي لها جذورها الدينية العميقة.

لقد قال الأديب الفرنسي الكبير اندري مالرو، إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الدين أو لن يكون...

كل المؤشرات والوقائع تدل على صحة هذا التوقع...