-A +A
طلال صالح بنان
السياسة هي سلوك بشري بامتياز.. والظاهرة السياسية، هي نتيجة تفاعل البشر بالبيئة المحيطة بهم. لذا: يتمركز التراكم المعرفي في علم السياسة، من أجل بناء نظرية سياسية شاملة، حول الطبيعة البشرية للظاهرة السياسية، في محاولة تفسير السلوك الإنساني واستشراف حركته المستقبلية، على أسس علمية تعتمد أساساً على قياس متغيرات مادية وإيجاد علاقة سببية بينها لفهم طبيعة السلوك السياسي وتلمس مخرجاته.

ينقسم علماء السلوك السياسي، في ما يخص النظر إلى الطبيعة البشرية، إلى قسمين. القسم الأول: ذلك الذي ينظر إلى الطبيعة الإنسانية بتفاؤل وإيجابية. يجادل هذا الفريق: أن الإنسان، بطبعه، كائن مسالم اجتماعي، يميل بطبعه إلى التعاون مع الآخرين، من أجل بناء مجتمع إنساني يعمل على استغلال الموارد المتاحة والمحتملة من أجل إشباع حاجات الجميع، والعمل على توزيعها بين أفراد الجماعة، توزيعاً عادلاً.


القسم الثاني: يرى أن الإنسان بطبعه شرير وعدواني، يميل سلوكه إلى الصراع مع الآخرين، تدفعه غريزة أنانية ذات نزعة «شيفونية نورجسية» تحول بينه وبين مراعاة حاجات الآخرين وحقوقهم وحرياتهم، لذا لا بد أن يعكس النظام السياسي، هذه الخاصية الصراعية والأنانية للطبيعة البشرية، ليس من أجل مقاومتها أو تجاهلها، بل من أجل تهذيبها وضبطها، وجعلها أكثر ملاءمة للعيش في مجتمع متمدين تشبع فيه الحاجات وتُصان فيه الحقوق والحريات، وينعم بالسلام الاجتماعي.

يُجمع هذان الفريقان، على ضرورة وجود الدولة، لأهمية مؤسساتها السيادية، لإشباع حاجات الفرد وحماية حقوقه وحرياته، وإن اختلفت بينهم النظرة لطبيعة الإنسان، وكذا الاختلافات بينهم في شكل النظام الأقرب لتحقيق أهداف وجود الدولة، نفسها. لكن الاختلاف الأساس، بين هذين الاتجاهين في النظرية السياسية، هو مدى السلطات، التي تعطى للنظام السياسي الأمثل، من وجهة نظر كلٍ منهم.

هناك فريق ثالث، وإن قبل بازدواجية النظرة للطبيعة البشرية، إلا أنه لا يخفي امتعاضه من الجدل، حول ضرورة وجود الدولة. هذا الفريق المناهض للدولة يرى: أن الناس أدرى بمعرفة مصالحهم، ووجود السلطة السياسية، ممثلة في الدولة، من شأنه أن يعقد ويربك الحياة الاجتماعية، وليس بالضرورة يقود وجود الدولة، إلى التأثير الكبير في طبيعة الإنسان، سواء كانت خيرة أم شريرة.

مع كل هذا الجدل الممتد لأكثر من ٢٥ قرناً في أدبيات علم السياسة المكتوب، من أجل تطوير نظرية جامعة لعلم السياسة، تدور حول فكرة الدولة، كتجمع مدني يحتوي سلوك الإنسان السياسي، تحتل السلطة السياسية مكانة القلب في حركته، فإن المعضلة الأساسية لتطوير نظرية سياسية جامعة وشاملة، لن تكون بدايتها في النظر إلى الطبيعة البشرية، بقدر ما هو تحقيق الغاية من وجود المجتمع السياسي الأمثل، القادر على استيعاب حاجات الإنسان.. والتسامح مع تطلعاته.. واحترام حقوقه وحرياته.. والقبول بواقع التعددية الاجتماعية والدينية والعرقية والثقافية، التي تسود المجتمعات الإنسانية، أينما وجدت.

الطبيعة البشرية لا يحكمها تصور مسبق، كونها خيرة أم شريرة، بل التسليم بالطبيعة الصراعية للسلوك الإنساني، والظاهرة السياسية بصفة عامة. من هذا التصور الواقعي للسلوك السياسي، يجري البحث عن البيئة المناسبة، اجتماعياً وسياسياً، لتهذيب هذا السلوك الإنساني وضبطه، بدلاً من تجاهله والبحث عن تفسيرات «ميتافيزيقية» قاصرة عن فهمه، دعك من استشراف حركته المستقبلية.