-A +A
محمد مفتي
شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة خلال ما يزيد عن ثمانية عقود الكثير من المد والجزر، غير أنها خلال فترات الجزر لم تصل العلاقات إلى حد القطيعة بين البلدين؛ فلم يكن الفتور أكثر من مجرد خلاف سياسي يظهر بين دولتين نتيجةً لاختلاف الرؤى في السياسة الخارجية، وقد تصل الخلافات بين الدول إلى درجة عالية من التأزم بسب رغبة كل دولة في الانحياز لمصالحها القومية قبل كل شيء، غير أنها قد لا تصل إلى مرحلة النفور التام وقطع العلاقات الدبلوماسية.

لقد كانت -ولا تزال- المملكة دوماً محل اهتمام الكثير من القوى العالمية، ويرجع ذلك إلى العديد من الأسباب، منها المساحة الجغرافية الكبيرة واتساع حدودها من الخليج العربي شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، أضف إلى ذلك ما تتمتع به المملكة من موارد طبيعية كثيرة حباها الله بها، وأهمها النفط بطبيعة الحال، ومن المؤكد أن القوى العظمى تحرص على ضمان استمرار التدفق النفطي الذي يعد عصب وشريان الحياة للكثير من الدول وخاصة الصناعية منها، ولهذا يحرص الجميع على تكوين علاقة جيدة ورصينة مع المملكة التي تلعب دوراً كبيراً في تحقيق التوازن لأسعار النفط العالمية.


لكن القضية الأهم من كل ما سبق هو المكانة الإقليمية المميزة للمملكة في منطقة الشرق الأوسط، التي تعد منطقة ملتهبة بامتياز، ومنذ دخول النظام الخميني على الخط عام 1979 وبسبب اندلاع حروب عدة، سعت الولايات المتحدة للتنسيق على مستوى السياسة الخارجية والعسكرية بينها وبين المملكة، ومن المؤكد أن هذا التنسيق يمثل أحد أهم الإنجازات في تاريخ العلاقة بين البلدين، وخلال تلك الأزمات كان للإدارات المختلفة للولايات المتحدة رؤى مختلفة في تعاملها مع أزمات المنطقة، ولا شك أن دخول الولايات المتحدة للعراق عام 2003 وبعدها الحروب الأهلية في سوريا واليمن وهشاشة النظام السياسي في لبنان، دفع الأنظمة الغوغائية إلى استثمار تلك الاضطرابات بشكل كبير؛ بهدف الإضرار بأمن المملكة التي ظلت منذ تأسيسها صامدة في مواجهة أي تحديات.

حرصت القوى العظمى دوماً على خطب ود الولايات المتحدة لأنها الطرف الأقوى في المعادلة العسكرية والاقتصادية في المنطقة، وعلى الرغم من تنافس بعض القوى العالمية بهدف إزاحة الولايات المتحدة من صدارة المشهد، والتقليل من تأثيرها السياسي في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن المملكة حرصت على إحداث نوع من التوازن بين جميع الأطراف في جميع علاقاتها، وقد حرصت المملكة على تنويع مصادر تسليحها من مصادر مختلفة ومتعددة كالصين وفرنسا والمملكة المتحدة، وفي نفس الوقت حرصت على المحافظة على تعهداتها التي قطعتها على نفسها مع الولايات المتحدة وخاصة في مجال أنظمة الردع.

بعد اندحار الاتحاد السوفييتي في التسعينات من القرن الماضي حرصت الولايات المتحدة على أن تقوم بدور الشرطي الدولي، وعلى تزعم السيادة الدولية من خلال الهيمنة على كثير من الدول بمن فيها الدول العظمى، وقد بلغ الصلف في الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنها لا تقبل حتى المفاوضات مع الدول الأخرى، بل تصر على إملاء شروطها وسياساتها التي ترغبها، وهو الأمر الذي لا تقبل به أي دولة حرة ذات سيادة، وخلال العلاقات الأمريكية التي استمرت خلال عقود مع المملكة لم تقبل قيادة المملكة العربية السعودية يوماً سياسة إملاء الشروط، وقد حاولت بعض الإدارات الأمريكية خلال العقدين الماضيين استغلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر للزج باسم المملكة في تلك الأحداث، وذلك طبقاً لتحقيقات وتقارير قامت هي نفسها بإعدادها -بل فبركتها- إن صح التعبير، لكن الحكومة السعودية ترحب بتحقيق شفاف يُظهر فعلاً الحقائق كما هي دون تسويف أو تزييف.

منذ تولي الأمير الشاب محمد بن سلمان ولاية العهد، حرص على مواجهة التصلف الأمريكي بحزم وصرامة لإيمانه التام بأن المملكة لن تحتل مركزها الدولي والإقليمي الذي يعكس وزنها وثقلها الحقيقيين إلا من خلال اتباع سياسة واضحة وشفافة وحاسمة في آن واحد، وقد بدأ بالفعل في تحقيق ذلك من خلال مسارين: الأول هو تنويع مصادر السلاح واستيراده من العديد من الدول التي تملك تقنياته الحديثة، أما المسار الثاني فهو توطين الصناعات العسكرية، والاعتماد بصورة جذرية وبشكل كبير على سواعد أبنائها في بناء منظومة عسكرية وطنية داخل المملكة، وذلك لأن الأمير آمن بأن الاعتماد على الدول الأخرى في الحصول على التقنيات العسكرية سيجعل المملكة رهينة لما تجود به تلك الدول.