-A +A
إيلي القصيفي
يعبّر تفوّه وزير الخارجية اللبناني المستقيل شربل وهبه بكلام عنصري ضدّ من أسماهم «أهل البدو» عن الإشكالية الرئيسة في الأزمة اللبنانية المتمثلّة في كون الممارسة السياسية للسلطة أصبحت خارج المعقول؛ أي بعيدة كلّ البعد عن التعريف الأخلاقي للسياسة بما هي إدارة عقلانية للشأن العام تحقّق مصالح المجتمع وترعاها.

فأن يدلي رأس الديبلوماسية اللبنانية بمواقف عنصرية ضدّ شعوب دول بعينها، وبالأخص إذا كانت هذه الدول شقيقة للبنان على مرّ تاريخه فهذا يتجاوز في غرابته أي قدرة عقلية على فهمه واستيعابه، إلّا إذا أسقطت هذه المواقف على الواقع السياسي الراهن في لبنان الذي يجمع بين اللاعقلانية بالنظر إلى إمعان السلطة في مفاقمة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الحاصل، وبين التعبير عن توجّه سياسي للسلطة معادٍ لدول الخليج العربي وخصوصاً المملكة العربية السعودية.


كذلك فإذا كان نطقُ وزير الخارجية بكلام عنصري ضدّ أي شعب من شعوب الأرض يناقض جميع الأعراف الديبلوماسية المتفّق عليها حول العالم، فإنّ فعله هذا أشدّ سوءاً عندما يكون موجّها ضدّ دول وشعوب عربية، فمقدّمة الدستور اللبناني أكّدت على نهائية الكيان اللبناني وعلى عروبته كمبدأين لا رجوع عنهما.

والواقع أنّ مواقف الوزير المذكور تعكس التوجّهات السياسية للسلطة التي عيّنته في منصبه والتي تمارس يومياً انحرافات دستورية هدفها النهائي تقويض الدستور الحالي المعدّل بالاستناد إلى وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّت في مدينة الطائف السعودية في عام 1989.

وإنّ هذا المنحى المتجذّر للتنصّل من «اتفاق الطائف» يعكس استراتيجية ممنهجة للسلطة الحاكمة المتمثلة بـ«حزب الله» و«التيار الوطني الحر». وهو منحى متواصل منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ويقوم على إشهار العداء للسنّة اللبنانيين وعلى محاولة تطويعهم باعتبارهم الكثافة الديموغرافية والسياسيّة المخوّلة لحمل فكرة عروبة لبنان. ويصبّ هذا المنحى في الإستراتيجية الإيرانية لتقسيم مجتمعات المنطقة بين «الغالبية» السنية العربية من جهة و«الأقليات» الدينية والمذهبية من جهة ثانية، وحمل كلا الجهتين على العداء والمواجهة.

ومن تجليّات هذه الإستراتيجية الإمعان في تشويه صورة العرب السنّة من خلال المماهاة الأيديولوجية التي تقيمها إيران وحلفاؤها بينهم وبين الإرهاب الإسلاموي السنّي، متناسين ميليشياتهم العقائدية المجرمة التي تدعّي محاربة الإرهاب. علماً أنّ الدول التي تحتضن غالبيات سنّية كانت أولى ضحايا هذا الإرهاب. ولذلك ما برحت المملكة العربية السعودية وهي الأكثر تضرّراً معنوياً وسياسياً وأمنياً من هذا الإرهاب تتّبع استراتيجيات عسكرية وسياسية وتعمل على رؤى إصلاحية دينية للتصدّي لظاهرة التطرّف الإسلاموي العنيف.

وبالرغم من ذلك كلّه فإنّ الأيديولوجية «الأقلوية» ما فتئت تغالي وتمعن في خلق نزعات تغلّبية طائفية ضدّ العرب السنّة من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان، وذلك في انفضاح واضح لسياساتها الطائفية الهادفة إلى تقويض استقرار هذه الدول عبر تجذير الانقسامات الطائفية فيها. كل تلك الاستراتيجية الإيرانية لتأبيد نفوذ طهران وحلفائها في دول المنطقة تهدف إلى استغلال اقتصادات هذه الدول والسيطرة عليها وبالتالي تأمين تواجدها الاقتصادي والعسكري في البحر المتوسط وفي البحر الأحمر.

وفي هذا السياق يأتي طرح مشروع ما يسمّى بالسوق المشرقية الذي لا ينفكّ «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في لبنان يروّجان له في الآونة الأخيرة. وتسعى إيران لكي تجمع هذه السوق بين لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق ما يمكنّها من خدمة مصالحها بخلق قطب اقتصادي موازٍ للثقل الاقتصادي الخليجي. وهذا كلّه يتمّ من خلال تكريس الاصطفاف الجيوسياسي بين الدول التي تقبع تحت النفوذ الإيراني المباشر وبين دول الخليج وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية.

لذلك فإنّ العنصرية التي عبّر عنها وزير الخارجية المستقيل ضدّ من أسماهم «أهل البدو» هي جزءٌ أساسي من خطاب هذه الأيديولوجيا الهادفة إلى شيطنة شعوب شبه الجزيرة العربية ونزع الصفة الحضارية عنهم. وفي هذا الصدد فإنّه يجدر التيقّن أنّ قصدُ إيذاء إنسان أو جماعة بوصفهم بدواً هو ضربٌ من الجهل والغباء، لأنّ البداوة ليست مذمّة ولا عاراً بل بالعكس فهي تعبير عن إبداع أهل هذه المنطقة في ابتكار نمط عيش تأقلم مع تغيّر الظروف المناخية حيث ساد فيها الجفاف منذ حوالى خمسة آلاف سنة.

وإذا كانت هذه النزعة العنصرية تعتبر البداوة نقيضاً للحضارة، فإنّ أرض المملكة العربية السعودية بالذات تكشف منذ سنوات بفضل التنقيبات الأثرية الحثيثة عن كنوز الحضارة الإنسانية وتطوّر البشرية منذ مئات آلاف السنين. وقد بدأت نتائج هذه الأبحاث العلمية بتجديد فهم تاريخ المنطقة والعالم بأسره وإعادة كتابته. فمن كان له عقل فليتدبّر!