-A +A
طلال صالح بنان
الحربُ ليست شراً مطلقاً. إنها أداةٌ من أدواتِ التاريخِ الحاسمة، التي شكلت الحضارةَ الإنسانية. الحربُ أداةُ عنفٍ تقدمية، أحدثت مواقعها الفاصلة تحولات مهمة واستراتيجية في تاريخ البشرية. الحربُ لا يمكن التخلي عن خيارِها، أو حتى استبعاده، رغم تكلفتها الباهظة.. وتوقعاتها غير المؤكدة، ورهانها غير المضمون.. وحساباتها الخاطئة، في كثيرٍ من الأحيان.

لكن الحربَ ليست غايةً مطلقةً، في ذاتها. الحروب لا تُشنُ من أجلِ الحرب، نفسها. لا تستطيع دولة، مهما كانت إمكاناتها المادية والتكنولوجية قادرة على الاستمرار في حالةِ حربٍ ساخنةٍ، لمدةٍ طويلة. الحربُ شأنها شأن أية مغامرة غير مضمونةٍ نتائجها، لا بُدَ أن تخضع لحسابات موضوعية ودقيقة ومتحفظة لتقدير الربح والخسارة، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية التلويح بها والتهديدِ بشنها، للحصول على عائدها، دون إطلاقِ رصاصةٍ واحدة.


هنا يأتي دور الردع. الدفع بخيارِ الحربِ يجعل الخصمَ يراجعُ مواقفه، لتقترب من أهداف من يمارس استراتيجية الردع، مما قد يتطور إلى حلٍ للأزمة موضع الصراع. الردعُ، ليس في كلِ الأحوالِ يأتي بنتائج تفوق تلك التي يمكن الحصول عليها بالحرب، والانتصار فيها. لكن الردعَ بالقطع: يرفع من إمكانية اقتراب الطرف الذي يستخدم استراتيجيته وتكتيكاته، من خدمة أهدافه ومصالحه وضرورات أمنه، مقارنةً باللجوء إلى خيار الحرب، رغم احتمالات النصر فيها.

في أزمة سد النهضة الحالية يتغلب واقع السد على رغبةِ كلٍ من مصر والسودان التعايش مع هذا الواقع. ليس هناك بين الأطراف الثلاثة (إثيوبيا والسودان ومصر) مشكلة في فكرة السد نفسه، لكن في مدى قرب واقعه وبعده من مصالح أطرافه الاستراتيجية. هناك حاجة تنموية لإثيوبيا للسد، لإنتاج الكهرباء، يقابله قلقٌ من دولتي المصب (السودان ومصر)، من النقص في كمية المياه التي تصلهما، بعد اكتمال السد.

الخطر الاستراتيجي أكبر على مصر، لأن وجود مصر نفسها يتوقف على تدفق نهر النيل بمعدلاته الطبيعية. مصر في حاجة متزايدة لمياه النيل، لا أن يأخذ السد من نصيبها القانوني من مياهه (٥٥ مليار متر مكعب) سنويا، بموجب اتفاقية ١٩٥٩، عندما كان تعداد مصر نحو ٣٠ مليون نسمة والآن يتجاوز ١٠٠ مليون نسمة.

مصر، باختصار: لا تتحمل إنقاص قطرة واحدة من نصيبها القانوني في مياه نهر النيل، حيث التقديرات المتحفظة تقول: عند اكتمال السد لن تتجاوز كمية المياه التي تصل مصر ٣٠ مليار متر مكعب. بعبارةٍ أخرى: مصرُ يشكل السدُ، نفسه، خطراً استراتيجياً وجودياً على شعبها.. وكينونتها كدولة.. وتاريخها الحضاري، لا يمكن القبول به أو التعايش معه، مطلقاً.. مما يفرض التساؤل: لماذا سُمِحَ بالبدء ببناء السد، أصلاً.

المشكلة ليست في الملء الثاني للسد، ولا تأجيل الملء. المشكلة في السد، نفسه. الخطورة هنا: أن خيار الردع، يبدو أنه قد فات وقته، ليصبح خيار الحرب أكثر صعوبةً.. وأعلى تكلفةً، وأدق حرجاً.

منذ سبعةِ آلاف سنة، لم تواجه مصر بخطرٍ يهددُ وجودها كدولة وحضارة كما يشكله سد النهضة الإثيوبي اليوم.