-A +A
صدقة يحيى فاضل
إن ما حصل في أمريكا يوم «الأربعاء الأسود»، 6 يناير 2021م، أعمق وأخطر بكثير مما يظهر على السطح. إنها «العنصرية» البيضاء... الضاربة بأطنابها في عمق النفسية الأمريكية. وهو «التشيع» السياسي للجنس الأبيض، ولقيمه المعروفة، وفخـره بنفسه واستعلائه (White Supremacy). هذا التشيع، الظاهر والخفي، الذي يمكن، عندما يتفاقم ويتطرف، ويشتعل فتيله، أن يقود لانفجار مجتمعي... يهدم في أيام ما تم بناؤه خلال عقود.

ويجب أن لا نلوم أي إنسان على ما يكمن في نفسه من «تفضيل» وتشيع خفي وظاهر لبني جلدته. فهذا أمر طبيعي، نادراً ما يخلو بشر منه. العيب عندما تنظر فئة لأخرى باستعلاء، وتظن أنها الأولى بكل ما في مجتمعها من مزايا. والكارثة تحدث عندما تتجسد هذه النظرة في الحقد، واستخدام العنف ضد الآخر المرفوض. ونحاول هنا توضيح هذا البعد الظاهر/ ‏الخفي لما حدث بأمريكا يوم 6 يناير من هذا العام.


****

ما إن تم اكتشاف القارتين الأمريكيتين، عام 1492م، على يد كريستوفر كولومبوس، ومن بعده أمريكو فسبوشي، عام 1507م، كما هو معروف، حتى بدأ كثير من «الأوروبيين»، من كل بلاد أوروبا، تقريباً، يهرولون للسفر إلى هاتين القارتين البكر، جماعات وأفراداً، بهدف الاستيطان الدائم في «العالم الجديد». وهكذا، بدأت القارتان تستضيفان ملايين القادمين، بحثاً عن الرزق، والفرص الكبيرة، والحرية... تدفق هؤلاء بالآلاف إلى كل أرجاء القارتين الواسعتين، اللتين كانتا تضمان سكاناً قلائل، يتناثرون في بعض بقاع القارتين. ومعروف أن نسبة كبيرة من سكان هاتين القارتين الأصليين (الهنود الحمر) إما تم إبادتها، أو محاصرتها، ووضعها، من قبل المهاجرين الأوروبيين، في مستوطنات بائسة. ويقدر عددهم الآن بحوالى سبعة ملايين نسمة.

عند استقلال أمريكا سنة 1776م، كان عدد سكان الولايات الثلاث عشرة المؤسسة للاتحاد حوالى أربعة ملايين نسمة فقط. ومع مرور الوقت، بدأت القومية الأمريكية تتكون، وعمادها هم البيض الأوروبيون، ذوو البشرة الشقراء. وساد الاستقرار، وعم الازدهار والتقدم. وقد استقدم الأوروبيون بشراً من قارة أفريقيا، واستعبدوا معظمهم، وسخروا في أداء الأعمال الشاقة وفي الزراعة. كما فتح الباب لاستقبال مهاجرين آسيويين، وغيرهم. وبدأت هذه القومية تتبلور، بظهور الأغلبية البيضاء...أو الأغلبية الأنجلو- سكسونية البيضاء البروتستانتية، التي يشار إليها، اختصاراً، بـ«الواسب» (WASP). ولم يتوقف تدفق المهاجرين إلى الأمريكتين يوماً منذ اكتشافهما. حتى وصل عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية إلى 108 ملايين، في نهاية الحرب العالمية الأولى، وحوالى 160مليوناً في نهاية الحرب العالمية الثانية، عام 1945م. أما الآن (2021م) فقد وصل عدد سكان الولايات المتحدة فقط إلى ما يقارب 380 مليوناً، تعود أصولهم لكل بلاد العالم.

****

ولا شك، أن المهاجرين الجدد (نسبياً) قد اقتسموا كعكة البلاد مع سكانها السابقين، من البيض، الذين بدأوا يشعرون مؤخراً أنهم قد أصبحوا «قلة» في الولايات المتحدة، وأن المهاجرين الجدد، أو الملونين، كما يحلو لبعض البيض تسميتهم، قد أضحوا منافسين للبيض، في كل المجالات. وهذا مما يثير حفيظة أغلب البيض، وخاصة ما يشار إليهم بذوي الرقبة الحمراء (Red Necks) أو البيض المتطرفين، وهو أمر طبيعي ومتوقع تجاه أي هجرة استيطانية.

ولكن التطرف في هذا الرفض، واستخدام العنف ضد المهاجرين الجدد نسبياً، هو الجانب السلبي لهذه الظاهرة. ولعل أسوأ مثال لهذا الجانب، يتجسد في أبرز وأشهر تنظيمات يمين اليمين المتطرفة الغربية حالياً وهي: جماعة «كو كلاكس كلان» (Ku Klux Klan)؛ وهي عبارة عن عدد من التنظيمات العنصرية المؤمنة بتفوق العنصر الأبيض، ومعاداة ما عداه، خاصة الملونين وأبناء الجنس السامي، والمسيحيين الكاثوليك. وقد تأسست أقدمها في عام 1866م في ولاية تينيسى الأمريكية. ويطلق عليها اختصاراً (KKK). وأصبحت أكثر ظهوراً منذ عام 1915م. ووصل عدد أعضائها في بداية القرن العشرين حوالى ستة ملايين عضو. ولكن هذا العدد انخفض بشدة بعد ذلك، ليقدر مؤخراً ببضعة آلاف فقط. وأعضاؤها يرتدون جلاليب بيضاء واسعة وطويلة تغطي كل أجسامهم، وأقنعة لا تظهر سوى عيونهم. وتلجأ هذه التنظيمات للعنف والإرهاب... مرتكبة جرائم بشعة ضد من تعاديهم. وقد صنفت كمنظمات إرهابية محظورة، بموجب القانون الأمريكي المعاصر.

****

الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب كان، كما يبدو، من المتحمسين للعرق الأبيض الأمريكي، ومن الرافضين لتواجد نسبة كبيرة (نسبياً) من الملونين على الأرض الأمريكية، وبطريقة واضحة؛ بدليل ما اتخذه من سياسات في هذا الاتجاه، أكسبته دعم وتأييد «القلة البيضاء»، وحنق وغضب الملونين. وذاك هو السبب الرئيس لشعبيته عند أولئك. أما ما عمله في مجال الاقتصاد الأمريكي، فقد كان ازدهاراً مفتعلاً، أتت عليه جائحة كورونا، التي لم يهتم بمكافحتها، كما يجب، فتدهور الاقتصاد بشكل مريع، في السنة الرابعة لحكمه. وقد نواصل هذا الحديث في المقال القادم.

كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com