-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كان يوماً عادياً تماماً، رمادياً بغيومه التي لا مطر فيها، وبروتينه الممل، وكان مساؤه شديد العتمة، وانقضى ليله الطويل ببطء شديد، وعندما تسلل شعاع بداية النهار من وراء ستارة النافذة، كنت أشرب قهوة الصباح أمام شاشة قناة تركها أحدهم لي بعد أن فرغ من مشاهدتها البارحة؛ قناة يبدو الشخوص فيها، وكأنهم أشباح، أو كائنات غريبة هبطت علينا من مركبة فضائية، من أي كوكب جاء هذا المذيع والذي يفترض أن تتم حمايته من غبائه الذي يعيش فيه، حيث يصور المناضل، حال (الدواعش) ويبدو أنه أحدهم، أنهم احترقوا بنيران الماضي، فلجأوا إلى نيران المستقبل، كجزء من بحثهم عن وجود آخر، وكينونة جديدة، ومن أي صالون تجميل جاءت هذه المذيعة ذات الرموش المستفزة؟ لتتحدث عن مأساة مهاجرين إلى ما وراء البحر، إنهم يتحملون، على رأيها، وحدهم مسؤولية موتهم غرقاً، لأنهم لم يحبوا البلاد، واختاروا هجرها على الجوع في حضنها، هباب أيه هذا على الصبح!! لكم أكره هذه القناة، يبدو أن وضعي هذا الصباح لا يختلف عن الأمريكي الأبيض الذي يكره الزنوج ويستيقظ ليجد نفسه في هارلم!! صالحت نفسي بأن أقفلت التلفزيون، وأخذت أستمع إلى فيروز، والتي تعطي للصباح نكهة معطرة بالحنين، ثم أخذت أكمل شرب قهوتي على مهل، وأستغرق في نوبة استذكار مجللة بدخان البايب الأول، والذي أدشن به نهاري، ثم حمام دافئ، وارتداء ما تيسر من الملابس، ثم الانطلاق إلى دار الحبيب (الشريف ناصر المنصور) رجل من تلك السلالات المنقرضة، والتي أرضها خضراء كالزيت البكر، تفور بالخير والبسالة والكرم، إنسان نسيمه يلامس قلبك، يذكرك وجوده دائما بهتافات الطفولة، والحب عندما كان يظلل الجميع كالشراع، نجتمع لديه في نفس الساعة والمكان، كنت على موعد مع الصنوبرة الجميلة في دمي، الكاتب الإنسان الذي له نعومة العشب وشراسة الصقر، وصدر هادئ كالحقل، الكاتب الذي لا ينام ولديه قضية، الحبيب الدكتور (حمود أبوطالب) اتصل بي مستفسراً عن موعدنا مع (الشريف ناصر بن منصور) قلت له بعد عشر دقائق، ذلك لأن عقرب ساعة الدكتور حمود دائما متثائب، وعقرب ساعتي دائماً يمد رأسه خارج الإطار، والتقينا، وتصاعد الكلام بيننا كالضباب في الوديان الخضراء، ولتخرج الكلمات القروية من أعماقي، عما شاهدته هذا الصباح، قلت وذقني يرتجف، ما سمعت المذيع يقوله عن (الدواعش) وكأنني ذكرت الدكتور (حمود أبوطالب) بوجل الأيام المريبة، والرجال المشوهين، الدكتور (حمود أبوطالب) قطار هائل وطويل من الحكايا الثرية، لديه قصص لا تنتهي كالجراد المتناسل على رخام القصور، قال سأحدثكم عن حادثة وبكل بساطة وارتياح، علها توضح لكم كيف تفكر هذه الوحوش، ثم تحدث عن صديق له، هو الآن رجل مرموق في هذا الكيان الحضاري، كان في مرحلة من مراحل عمره ينتمي إلى ذلك الفكر الضال، وكانت أصابعه مغروسة كالشوك في الريح، قادته إلى أن يكون خلف نوافذ السجون المطفأة، مجهولا كالأحراش، منزوعا من حريته كما تنزع الأوسمة عن خائن، ومن خريف إلى خريف، حتى جاء يوم كان مستلقيا فيه على قفاه في زنزانته، لا أحد يزوره، يثرثر مع نفسه كالأرملة، وليصحو على هتاف في الخارج، وضجيج بشري في أقسى أوجه، كقطعان بربرية كانت تثغو وتحتفل، كانوا مجموعة من المساجين ممن ينتمون إلى نفس الفكر، ممن لعقوا ماء الحياة عن وجوه كثير من الشباب يوماً وقادوهم للتهلكة، كانوا يحتفلون بيوم (إعدام) زميل لهم، كانوا يزفونه وبباقات سوداء تصل حتى الذقون، رآهم جميعا وتحت سماء صفراء، وحوشاً يبتهجون بالجنازات المسرعة، ويحتفلون بقبر بعضهم بعضا، كان الرجل يهتز بينهم فرحا، كالراقصة المخدرة بين كلاب صيد تخشخش بأطواقها المعدنية، ويتمايل كورق النخيل بينهم، وهو يعلم أنه سيمضي ولن يعود، ورغم ذلك كان يرقص محتفلا معهم، كانت ضربة قاصمة لوجهي، يقول جلست كفأر مذعور أستيقظ على صوت باخرة ناحت وتألقت مصابيحها الشديدة الضوء في وجهه كعيون الضباع المبللة، تحول رأسي إلى نافورة تسيل مياهها حزناً على ماضٍ مليء بالحموضة، بكيت كامرأة فقدت رضيعها، ثم صرخت بكل صوتي.. إنني وحيد يا إلهي فأنقذني، وكان الله معه حيث أخرجه مما كان فيه، كنا نصغي أنا والشريف ناصر المنصور والأستاذ علي محرق، كما يصغي الأطفال لحديث ممتع حول موقد.. وأعتقد أنتم كذلك!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com