-A +A
علي مكي
جازان.. ٢٢ سبتمبر.. حيّ الخالدية في محافظة (ضمد).. الساعة الثانية ظهراً.. رائحة الموت تملأ المدينة.. هذه المرة كانت الرائحة مختلفة فيها نوع أو أثرٌ من شيء يشبه القداسة، وكأنّ الراحل هو أحد الشهداء، ولعلنا نحسبه كذلك. ألم يقل نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: «المبطونُ من أمتي شهيد» أو كما قال عليه الصلاة والسلام. عصر الثلاثاء الماضي كنتُ في مقبرة مدينتي «ضمد» برفقة المئات الذين حضروا من كافة أنحاء منطقة جازان ومن خارجها أيضاً، كلهم جاؤوا من أجل توديع رجل عظيم أجمع كل من عرفه على محبته وطيبته وصدقه وروحه الواسعة الكريمة ونبله الذي لا يُحدّ، فليس لنبل «أبي وسام» نهاية أبداً لأنه مفتوحٌ على البذل والعطاء والسخاء وألق النور الذي يشعّ من ابتسامته الصافية كمياه النبع الكريم. بعد وصول جثمانه الكريم إلى المقبرة سمعت أحدهم يقول لشخص مجاور له «أسكن بالقرب من هذا المكان منذ عشر سنوات، لم أر يوماً جنازة بمثل هذا الجمع اللافت حتى قبل (كورونا)! ووجدتني أتدخل وأزرع نفسي بينهما قائلاً: إنه «محمد»! ومن هو مثل «محمد جعفري» إنساناً وأخاً وصديقاً وصاحباً تُشترى رفقته وتُمنح من أجلها كل الأسباب، بمنتهى الرضا والطمأنينة والراحة، مهما علا وبلغ شأنها؟ وكنتُ قبيل دفنه قد ألقيتُ عليه النظرة الأخيرة وهو مسجىً مثل فارس وطني عظيم حارب وقاتل «السرطان» بشراسة تقطرُ صبراً ورضا وبسالة لا تخلو من حبّ الحياة بكل موجوداتها المفتوحة على التعدد والتنوع حتى في آلامها وإحباطاتها وإنكساراتها. كان «أبو وسام» سيداً وعلامة فارقة في تقبل كل ذلك مجاهداً ومتمسكاً بالأمل وقاهراً لليأس بكل أرتاله وأسلحته الخبيثة التي لم تسلبه، لحظةً أو هنيهة، نقاء سريرته.. ولم تغلق لقلبه، الناصع كالوردة، باباً أو شرفة يدخل منها كل من عرفهم وعرفوه ليغتسلوا في هذا المحيط الطاهر، كأنما كان له قلب قِدّيس وروح (صوفية) لا تغربُ إشراقتها المتجددة ولا يزول لمعانها الأصيل! ووجدتُ وجهه المسافر في نواحي الأبدية يضيءُ ويتلو كل آيات هذا القبس النورانيّ الذي يسكنُ داخله الشفيف مثل (فُلٍّ) يعبقُ برائحة المسك في روحه كليلِ (صبيا)! رحمك الله يا صديقي وجبر مصابنا في رحيلك، ونحن الذين «وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية». ومثلما قال الراحل محمود درويش مؤبناً صديقه الراحل ممدوح عدوان، رحمهما الله، أخاطبك يا أجمل الأصدقاء وأنبلهم وأكرمهم يا راحلنا العظيم: يا أيها الجعفريّ، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيتَ بانضباط (عاشق) أمام (رديمة فُلّ)! فإلى الهناء الأبديّ المستدام في جنة الخالق الكريم تحفك رحمته ورضوانه وأُنسُ القرب من جلاله الكبير!