-A +A
طلال صالح بنان
يفخر الأمريكيون بدستورهم ونظامهم السياسي. الدستور الأمريكي يُعدُ أولَ دستورٍ حديثٍ مكتوبٍ يأخذُ بصيغةِ الفصل بين السلطات، توكيداً للسيادة الشعبية.

لكن، بعيداً عن «رومانسيةِ» واضعي الدستور الأمريكي، الولايات المتحدة ليست بتلك المدينة الفاضلة، التي تمنوها. لقد اجتهد الآباءُ الأوائلُ في إقامةِ سلطة سياسية ضعيفة، ترزح تحت وطأة الصراع بين مؤسساتها، حتى لا تتطور إلى سلطةٍ غاشمةٍ تتغولُ على الإرادةِ الشعبية.. وتعتدي على حريات الناس وحقوقهم. لكن التجربة كان لها منطقها، الخاص بها.


المشكلةُ في الدستورِ الأمريكي: ذلك الغموضُ، الذي اكتنف نشأةَ.. ونال من وظيفة السلطة القضائية، التي أراد من خلالها واضعو الدستور حمايتَه. صحيحٌ: الدستورُ أخذ بمبدأِ استقلالية القضاء.. وحاول أن يتفادى أيةَ ضغوطٍ أو تأثيرٍ على حريةِ القضاة، بضمان بقائهم بمناصبهم، طوال حياتهم، طالما هم قادرون على القيام بأعمالهم، ولم يتورطوا في أعمالٍ تضر بطبيعة مسؤولياتهم.. وحال دون أيِ تدخلٍ في رواتبهم وامتيازاتهم وحصاناتهم، من أيِ سلطةٍ أخرى. إلا أن الممارسةَ السياسيةَ تطورت بعيداً، عن نصوصِ ومضمون الدستور، تلك.

عدا تأكيد المادة الثالثة من الدستور: على أن أعضاء الدستورية العليا، يعينون من قبل الرئيس بعد موافقة مجلس الشيوخ، اكتنف الغموض الكثير من جوانب المحكمة، بما فيها الإشارة إلى عدد أعضائها. خلال الثمانية عقود الأولى من عمرِ المحكمة، تراوح عدد أعضائها من خمسة إلى عشرة قضاة، إلى أن استقر عام ١٨٦٩ للعدد الحالي (تسعةَ قضاة).

الشيطان يكمن هنا في تفاصيل اختيار قضاة الدستورية العليا وتعيينهم. ليست العبرة هنا، الحرص على نزاهتهم وورعهم وعلمهم وخبرتهم، تحرياً العدالة، بل توجههم الأيديولوجي، سياسياً. العبرة ليست في وظيفتهم الأساسية في الرقابة على دستورية القوانين، بل في مواقفهم تجاه القضايا التي يُتوقعُ أن تُعرضَ عليهم. باختصار، المهم هنا: هل ميولهم ليبرالية أم محافظة. هذا هو المعيار الرئيس، الذي يحدد اختيارَ قضاة الدستورية العليا، من قبل الرئيس.. وقبول مجلس الشيوخِ بهم.

تاريخياً: كانت تلك هي القضية.. وكثيراً ما تُثار المسألةُ، عندما يشغر مقعد في المحكمة العليا، قربَ نهاية ِفترة رئاسية ودورة تشريعية للكونجرس. وفاةُ القاضية روث بادر غينسبرغ ١٩ سبتمبر الجاري، جعلَ قضيةَ شغلِ منصبِها قضيةً سياسيةً رئيسيةً، هذه الأيام.

الديمقراطيون يريدون البت في المسألة بعد الانتخابات.. الجمهوريون، في المقابل، يريدون الاستفادة من جمعهم الحالي بين الرئاسة والأغلبية في مجلس الشيوخ، لشغل المنصبِ، قبل موعدِ الانتخابات. السيناريو الأخير سيضمن للجمهوريين أغلبيةً في المحكمة: ٦ قضاة محافظين مقابل ٣ قضاة ليبراليين.

لو تمكن الجمهوريون من تعيين قاضٍ جديد، فإن ذلك سيصب في مصلحتهم، في حال ما إذا تطلب الأمر اللجوء للمحكمة للفصل في قضية النزاع (المحتمل) حول نتيجة الانتخابات القادمة. حدث ذلك في انتخابات ٢٠٠٠ عندما انحازت الدستورية العليا للمرشح الجمهوري جورج بوش الابن، بحكمها وقفَ العدِ اليدوي للأصوات في ولاية فلوريدا.. إقراراً منها بنتيجة العد الإلكتروني... وكان أن فاز جورج بوش الابن بالرئاسة، بفارقٍ أقلُ قليلاً من ٤٠٠ صوت!

القضاء في الولايات المتحدة يحكمه منطق السياسة، لا توخي العدالة المجردة.

كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com