-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أكتب اليوم عن عالم من علماء بلادي، تخصص في جراحة الأوعية الدموية، وبرع فيها، اختار عنوانا لكتابه الذي أهداني إياه (بلا مقدمات) غير أن المقدمات عن هذا الرجل، تشبه العاشق الحائر الذي لا يعرف كيف يغرف من الكنز، عرفته طبيباً ناشئاً، حديث التخرج من كلية الطب، جسد شديد التواضع في قعر محيط، تحول مع الزمان إلى بركان طالع من زوايا الأسطورة في تخصصه، لا يشبهه أحد، ويعرفه كل أحد، أنجبته كلية الطب جامعة الملك عبدالعزيز، وأخلص إلى عهده وقسمه تجاه المريض والمصاب والطالب، يزين الفرح ويمجد البحث العلمي، ويغرد في (تويتر) كنجمة متربعة على لسان قمر، كتابه (بلا مقدمات) كطعم العسل حين يسرق من منحله، مجموعة شيقة من أناشيد مختلفة، تعانقك كحفنة من التبر، كرحيق الورد على لسان النحل، تمخر عباب بحر روحك، قلمه الزورق، وكلماته المجاذيف، وكل كلمة منه تحرك الموج الداخلي فيك، يفتنك وهو يتحدث عن (ديرته) قريته من قرن ظبي، القابعة بفخد بني حسن من قبيلة زهران من منطقة الباحة، كأن حديثه عنها مسحوق سكاكر ناعم مطحون يتطاير فوق الصفحات، يتحدث عن الحجارة التي تغرد فيطرب لنشيدها العصفور، وانتحار الرياح فوق قمم الجبال العالية، يقول عن زيارته الأولى لقريته طفلا «لاح الصباح وأذن الديك وصاح، وأشرقت الشمس على البطاح وهذا السجع ليس من كلامي، بدت القرية بمنظر آخر، بدت فاتنة خلابة، فالبيوت الموحشة التي نزلناها ليلا، جميلة ومبنية من الحجر وكذلك الحقول الزراعية (الركبان) مما يدل على أن القوم كانوا يشيدون للزمان والأجيال» ثم يتحدث عن الهجرة من القرية بوجع الناضج فيقول «الوادي أخضر والجبل المطل عليه أحمر اللون، على رأس الجبل الآن منشأة عسكرية، والسماء صافية، منظر بديع يذهب بالألباب، ومع ذلك لم يكن هناك فرص عمل كافية، مما دفع الشباب للهجرة الدائمة والمؤقتة إلى المدن، بحثا عن الرزق» ويستمر في الخطى، ينتصب ويمشي ذلك (الحسن) لا يلتفت إلى الوراء كي لا يصير تمثالاً من الملح، يتحدث عن (مستشفى الملك عبدالعزيز الجامعي بجدة) المكان الذي كنت أديره ولسبع سنوات وأنجب علماء ومتخصصين وأطباء مهرة ساهموا في رفع الخدمات الصحية بالمنطقة، يقول «أكملنا السنوات السريرية في مستشفى من المباني الجاهزة، مكون من ١٥٠ سريرا، فيه طاقم تمريضي وفني على أعلى المستويات، كان الاهتمام في هذا المستشفى منصباً على جودة التدريس والخدمة العلاجية، وليس على البهرجة والشكليات» يتحدث عن مسيرته ومطباته ووهاده، بنفسية متصالحة، كلما صفعته واحدة فتح ستائر مكنونه، فتأتي سحابة الضوء لتسحب المسافة من تحت قدميه، فيعود الى عذرية ابن القرية، يقتلع الشوك من طريقه ويمضي، تجد الحزن الكبير أحياناً يغلف كلماته، يقف على أربعة أعمدة، فتبدو العبارة كنملة لا تتحرك أبدا، يقولها وهو يودع منصبه رئيساً لقسم، أو وكيلاً للكلية، أو مديراً لأحد المستشفيات، بعد أن اجتهد في الأمانة التي أسندت إليه، ثم ردها إلى أهلها، وكسهم الرحيل على قوس الأفق، طويت الصفحة الأخيرة من كتاب، الأستاذ الدكتور (حسن بن علي أحمد الزهراني) وأنا أردد كم أنت كريم أيها (الحسن) أن أعدت لي ذلك الزمن الجميل الغائب، وذلك الفرح القديم، حيث يتغلغل الماضي، وتتأوه أصداء السنين، بأفراحها وأحزانها، حيث تربى الصغار، وصارو كبارا، وغادرونا، تاركين لنا الذكريات، وأسرة خالية مهجورة، وصورا على الحائط، ونقوش أصابعهم على الأبواب!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com