-A +A
حسين شبكشي
من أسعد اللحظات التي تؤثر فيّ هي متابعة كاتب مميز وجاد ومحترم في بلدي. هذا تماما إحساسي وأنا أتابع بشغف واهتمام كتابات طارق فريد زيدان، عندما يكتب مقالاته أو يؤلف كتبه. وليس غريبا عليه هذا التميز الذي يخطه قلمه، فهو ورث ذلك عن جده الأديب والمؤرخ الكبير محمد حسين زيدان، وله عدة مقالات مهمة وممتعة في مواضيع معرفية شتى، بالإضافة أيضا إلى كتابين لافتين؛ الأول «في بيت محمد حسين زيدان»، والثاني «الجورنالجي وكاتم الأسرار: محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر أسرار ومذكرات»، وصدر له كتاب ثالث منذ أيام قليلة جدا بعنوان «في ظل التاريخ»، وهو الكتاب الذي انتهيت من قراءته أخيرا. ويتعرض المؤلف في هذا الكتاب إلى مسألة التاريخ المكتوب والشفهي لقبائل الجزيرة العربية، وأثر ذلك على الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقبل ذلك كله الديني أيضا. ويملك المؤلف قدرة استثنائية على سلاسة الإبحار والغوص في أغوار موضوع شائك جدا ومعقد للغاية مستعيناً بمنهجية «ديكارتية» لنقد الأطروحة ومستنداً على أسلوب «كانطي» في التفكيك. سلك طارق زيدان في بحثه الممتع أسلوب الفضولي الراغب في شغف المعرفة والاطلاع، فتسلح وتشبع بتنوع المراجع والمصادر من مختلف المشارب، مانحاً لحروفه ولكلماته الجدارة والمصداقية والاحترام. وكان لافتاً في ربط المؤلف للأحداث التاريخية، بالرغم من بساطتها في بعض الأحيان، ببعضها البعض ليتبين لاحقاً أنها كانت صانعة للجغرافيا (والتي يصفها بأنها هي أعظم ديكتاتور في التاريخ، وهي الحاكم الوحيد الذي لم ينجح أحد في الانقلاب عليه) وتغيير ملامح المناطق، وأيضاً صناعة الرموز السياسية والسلطة من بعدهم. ويسهب المؤلف في أصول العرب والتفرعات التي حدثت لها، وكيف أن جغرافية المناطق التي سكنها كل فرع كونت شخصيات فريدة بعينها نتاج بيئتها وثقافتها وظروفها. ويختم الكاتب كتابه الممتع بجملة عميقة ومهمة لربط أفكار الكتاب ببعضها البعض بخاتمة فيها المغزى المنشود: «كتب علينا حكم التضاريس كما كتب على الذين من قبلنا. هذه الشخصية إن فهمها الباحث نال من الحقيقة أقصاها». عندئذ يصبح التاريخ أكثر انسجاماً مع دورة الحياة الإنسانية. «في ظل التاريخ» كتاب ممتع كتب بأسلوب جاذب ومفيد لموضوع بالغ التعقيد والتشعب فيه صعب، إلا أن طارق زيدان نجح وبامتياز في تقديم مادة ثرية للمكتبة العربية تحمل دراسة تاريخية مطعمة بمسح انثروبولوجي وسياسي اجتماعي وسياسي اقتصادي لتكتمل الصورة بشكل موسع. قيمة التاريخ تزداد حينما تراجع بعمق معرفي وبأدوات بحثية علمية تحترم المتلقي ولا تقدم رأياً منحازاً الغاية منه إثبات حجة مسبقة، وهذه ما نجح في تقديمه طارق فريد زيدان بشكل أنيق ومحترم في كتابه الأخير.

كاتب سعودي


hashobokshi@gmail.com