-A +A
فؤاد مصطفى عزب
وبنت المصرية هي.. الدكتورة نهاد نبيل الشيراوي، طفلة بحرينية من أم مصرية وأب طبيب بحريني، أعادها أبوها للبحرين، بعد أن مكث في مصر أعواما طويلة درس فيها الطب ومارسه، وأعاد ابنته الطفلة للبحرين لتشارك الأطفال فصول الدراسة (كالأطرش في الزفة) على قولها، لم تكن تعرف أي كلمة مما يقلن، ماذا تعني (بانكة) و(دروازة)، كل كلمة تقال في الفصل كانت تشبه الطلاسم، كل ما تتحدث تضع الصغيرات أياديهن الصغيرة على وجوههن كاتمات ضحكة سخرية، كن ينادينها ببنت المصرية! ولم تكن تفهم لماذا لا يقلن لعائشة بنت البحرينية، ورضية يا بنت الهندية، وكأن مصر والهند عالمان مختلفان عن البحرين، عجزت الصغيرة عن استيعاب كل ذلك، وكبرت بنت المصرية في البحرين، وأتقنت اللهجة، وصارت تتكلم بها خارج المنزل فقط، وما إن تعود إلى البيت حتى تتحرر من هذا العبء الثقيل وتعود تتكلم بالطريقة التي تعودت عليها، كانت تسأل أباها، لماذا تتكلم لهجة أهل مصر وأنت بحريني؟ كان يضحك ويجيبها أحب اللهجة المصرية.. عندك اعتراض! عاش الأب في مصر أيام دراسة الطب ما يزيد على الأعوام الثمانية، كانت من أجمل سنوات حياته، اختلط وعاش وتأثر بزملائه وأصدقائه المصريين، وتعرف على زوجته في الكلية وتزوجها، وصار يرتدي بذلة كتلك التي كان يرتديها جمال عبدالناصر، والبيت لا يخلو من الأهرام والأخبار وروز اليوسف وآخر ساعة، تتحدث في الكتاب (بنت المصرية) برشاقة وسخاء وروعة، سبيكة ذهب من الكلمات والعبارات مطعمة بخلاصة تجربة إبداعية حياتية، للزواج من غير بني الوطن، تجربة قرأت ما يعادلها مع اختلاف العمق للدكتور البرفسور المرحوم (جلال أمين) في كتابه (رحيق العمر) والذي أعتقد أنه وكتابه (علمتني الحياة) و(المكتوب على الجبين) من أجمل ما قرأت كسيرة ذاتية، يقول في خطابه لأخيه (حسين)، الذي كان يعارض بشدة الزواج من أجنبية: (لا تفكر فيها يا أخي أنها أجنبية أو إنجليزية، هذا جزء صغير جداً في المسألة وسأحاول أن أعطيك فكرة بقدر الإمكان عنها)، ويسترسل في وصف ما جذبه إليها ثم يختتم قائلا: (أرجو أن لا تكون مللت فيجب أن تكون صبورا، إني ممن يخدع في الحكم على الأشخاص، إلا أنني أعتقد أنني أستطيع التمييز بين السطحي والأصيل، وإذا كان العيب الوحيد في الموضوع أنها أجنبية، فهذا في حد ذاته له مزايا من ناحية أن يكتسب بيتنا مزايا الحياة الأجنبية، بحيث أضمن أنني لن أخسر ما اكتسبته في إنجلترا من النشاط والهمة في العمل.. وحتى انخفاض وزني)، وعاش البرفسور جلال أمين مع زوجته الإنجليزية حياة ثرية أغنى فيها المكتبة العربية بالعديد من نفائس المؤلفات وأنجب منها علماء وخبراء ومدرسين، وفي جزء آخر من سيرته الذاتية يقارن الدكتور جلال بين زواجه وزواج أبيه من أمه وكيف أن زواجه كان يغلب عليه التفاهم وأنه أكثر ميولاً للاتفاق والهدوء والإنتاج، ورأيي في هذا الموضوع الذي لا أعتقد أنه يحق لي الحديث فيه بالمنطق المطلق، حيث الحالات الوجدانية لها منطقها الخاص إلا أنني قد أشبه الموضوع بزهرة (المضعف) وهي زهرة من أجمل الزهور وعطرها من أرقى العطور، لكن حين تقتلعها من الأرض تنسل انسلالاً ولا تحرك التراب الذي يحيط بجذعها، فهي تخرج بصمت ومن دون جلبة، بينما (جب الشوك) حين يقتلع من الأرض يخلخل كل التربة حول جذعه ويترك حفرة كبيرة، وأترك لكم خلع التشبيه على ما ترونه مناسبا، ونصيحتي لكل من تزوج محلية أو أجنبية، ألا يجنح إلى (لو) فكل مأساة الحياة قد نختصرها أحيانا في هذه الكلمة، وذلك بعد فوات الأوان، فسيد هذا الكون هو الزمن، الذي يسير في اتجاه واحد لا حياد عنه، لا يتوقف ولا يعود إلى الوراء، فهو دائما يسبقنا، ويتركنا نلهث وراءه مثقلين بالندم غير المجدي، هو الكائن الضاحك، والساخر الوحيد الذي يلهو بنا كالدمى، كل ما علينا ألا نستسلم، ونتعامل مع الواقع والقرار الذي اتخذناه، بكل معطياته السلبية والإيجابية، علينا أن نعيش مع زوجاتنا وفق الحاضر ونتطلع إلى المستقبل، تاركين الماضي وراءنا تماما كما يفعل الزمن !

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com