-A +A
فؤاد مصطفى عزب
ذات صباح من عام ١٩٨٣م في (شيكاغو) البهية، المدينة اللامبالية والتي يغلفها الضباب، وتزدحم بالبشر واللعنات والضحكات، المدينة التي تتمدد في كل الاتجاهات، وتصدر عنها همهمة وخشخشة، على شكل شائعة وأكاذيب وحكايا، كأنها موتور يهدر في الليل، ولذلك سموها (مدينة الرياح) كان لي موعد مع.. التاريخ.. نعم التاريخ، حيث الحياة الأبدية، يذهب الجميع ويبقى التاريخ، وندوة، وحديث من امرأة (تسعينية) تعزف عزفا منفردا، مثل نورس على حرير بحر، كان لها تميز فردي بين المحاضرين، وكان الاستماع إليها يجعل الخبرة الإنسانية تزداد مساحة، فقد كانت تتحدث عن واقع تاريخي تليد، وحضارة بائدة وبأكثر من صوت ورؤية امرأة واحدة، قدمت نفسها على أن اسمها (شريفة الأمريكية) قالتها وهي تقف من الزمان كإبريق ماء، قالت عندما وصلنا إلى الأراضي البحرينية، من أمريكا، أنا و(روث) و(ريتشل) كنا بحاجة إلى أسماء عربية، لأن جميع من سبقونا من البعثة الأمريكية الطبية تسمّوا بأسماء عربية، وذلك ليتسنى للأهالي العرب لفظها، بدلا من الأسماء الأجنبية الصعبة، أطلق على الدكتورة (هارسيون) اسم (شريفة) أما (روث) فقد سميت طيبة، و(ريتشل) سميت منيرة، ووافقنا حالا، لأننا أعجبنا بنغمة صوت تلك الأسماء، تكمل فتزداد ذاكرتك امتلاء بدقة التفاصيل، ويزداد نبض قلبك إيقاعا مع ضوء العبارة، اسمي حسب الولادة (كورنيلا النبرج) أبحرت بنا السفينة (سيتي لال تاو) من نيويورك، ولننتهي فوق سطح سفينة تجارية في الهند، لتنقلنا إلى البحرين، تتحدث بسخرية ممزوجة بتفكه لا يخفى، عن كيف كان العرب يقيمون على سطح السفينة مع حيواناتهم، وكيف أنهم كانوا يختارون السفر بتلك الطريقة، ليتسنى لهم اصطحاب حيواناتهم، والتي تزودهم باللحم الطازج طيلة الرحلة، حيث كانوا يستخدمون مواقد الفحم لطهيها، كانت تنط أحيانا من موقف إلى آخر كالكستناء في الموقد، تكمل قائلة، ما إن رست سفينتنا على شواطئ البحرين في عام ١٩٢١م، حتى استقبلتنا المراكب الشراعية، والتي تناولنا عليها أسوأ شاي شربته في حياتي، فقد كان مالحا ومرا في نفس الوقت، وعندما استفسرت عن السبب، تبين لي أن مياه الشرب في البحرين كانت تجلب من ينابيع مياه حلوة داخل البحر، وتنحدر هذه الينابيع من جوف الأرض في السعودية، تبتسم وهي تقلب عينيها الخضراوين في الحضور، كانت كعصفور يلهو ويلعب في الجو صاعدا هابطا، تواصل.. انتقلنا على ظهور الحمير إلى مقر البعثة، والتي كانت عبارة عن عدة بيوت مبنية من الصخور البيضاء البحرية، والتي مع الأيام حفظتها عن ظهر قلب، وأستطيع أن أعدها بيتا بيتا، ثم تحدثت عن المستشفى الأمريكي في ذلك الحين، كعالم مفتوح على أفق محدود، تقول إن أقارب المرضى كانوا يقيمون مع المريض في المستشفى، خصوصا إذا كانوا قادمين من مناطق بعيدة، وعادة ما كان هؤلاء الأقارب يحضرون معهم الدجاج والأغنام، إن قرروا البقاء مع المريض ولبضعة أيام، وكان الغرض نفسه الذي كان من أجله يحمل المسافرون من الهند إلى البحرين بهائمهم معهم، تصمت صمتا أقرب للستار الذي يجذبه الطبيب ليقترب ويفحصك، ثم تتابع كامرأة غابت في سديم الزمان فاختلطت ذكراها بما تبقى في القلب من تاريخ، تقول أذكر في إحدى المرات، أن شيخ قبيلة حضر إلى المستشفى، ليس بصحبته بعض الأقارب، بل فريق كبير من الأهالي والخدم والماشية والطيور، كان قد أبلغنا قبل حضوره بنوع الغرفة التي يتوقع أن ينام فيها، وطريقة الخدمة التي يجب أن نقدمها له، وهكذا عندما حضر أمر خدمه ببناء قفص لأغنامه بالشرفة المطلة على غرفته، وكان من البديهي أن تلك الأمور تخالف أوامر الطبيب المقيم الدكتور (لويس ديم) ولقد استمعت إلى الطبيب وهو يحادث الشيخ، ويقنعه بأن الحيوانات غير مسموح بها في المستشفى، وعلى الرغم من أن الشيخ حاول جاهدا أن يتفاهم مع الطبيب، ويؤثر عليه بسلطته، إلا أن الطبيب أصر على موقفه، ولقد لفت انتباهي تمتمة الشيخ بعبارة مفادها (بأن الله سيقف معي ضد الطبيب) وعندما تأكد الطبيب أن الشيخ لن يقبل الهزيمة، ما لم يجد له حلا مناسبا، لذا فقد اقترح الطبيب أن يشتري أحد الأفراد أعواد النخيل، ويبني أقفاصا خلف المستشفى بعضها للحيوانات وأخرى للطيور، وأن يحتفظ الشيخ بعنزته المفضلة في الشرفة، فكر الشيخ لفترة ثم أعلن رضاه بالواقع الجديد، كان الحديث حميميا كصديق تحاول أحيانا أن تستحضر قسمات وجهه بدقة، أو أن تخرج صوره التي تحتفظ بها في ظرف قديم، تغطية مختصرة لمشاهدات ميدانية كثيرة، وصور عديدة شيقة عن كيف كان يمارس الطب في تلك الحقبة، استعرضتها وبإسهاب في مذكراتها، والتي غطت فيها الفترة الصحية في البحرين أوائل القرن العشرين، قدمت وبشكل لامع، يظل يومض في العقل رغم الأيام بإشراقة جوهرة سوداء، سنوات طويلة مرت على ذلك الحديث، التقيت بعد ذلك بـ(كورنيلا النبرج) في قرية (ساوث هولند) في إلينوي، أهدتني في ذلك اللقاء، مذكراتها، كانت تتكلم العربية بطلاقة، من يتحدثون العربية من غير العرب وبهذه الطريقة قليلون للغاية، بحيث تكون فرحة لقاء أحدهم مثيرة للغاية، مثل اكتشاف صديق وسط جمهور مسرح واسع، قبل انطفاء الأنوار بلحظات، كانت تحمل دفئا لا يبرد للخليجيين، وحبا لا ينتهي، وبقاء لا يفنى، لا أنسى جملتها الحزينة وهي تودعني بحرارة، كأنها قطرات دموع عاشق، كان صوتها سحيقا كأنه بلا قاع، أنا مثل كل المغتربين يا دكتور الذين قدموا إلى أرض العرب، أحبوا العرب، وأصبحوا أصدقاء للشمس، كسبوا كل شيء، ثم عادوا في النهاية إلى مواطنهم الأصلية غرباء... فاقدين كل شيء!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com