-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أدرت راديو السيارة في طريقي من العمل للبيت، قبل نشرة الأخبار المسائية في إذاعة لندن العربية كعادتي في كل مساء، فإذا بي أسمع صوت الشيخ (زكريا أحمد) في دور جديد على مسمعي، (الفؤاد لما يميل)، يا إلهي الأغنية جميلة ومجهولة تماما، بالنسبة لي، وصوت الشيخ زكريا فيها معبر وجميل، وكأنه هدنة مؤقتة من صخب الغناء الراقص الذي أصبح يحاصرنا في كل مكان، أما اللحن فروعة أخرى من مجموعة روائع هذا الفنان العظيم، استرخت أعصابي وأنا أتابع كلمات الدور الغنائي وموسيقاه الشرقية الأصيلة، فإذا بالأغنية تتوقف فجأة قبل اكتمالها، بدقات (بيج بن) تقطع النغم الحلو لتبدأ نشرة الأخبار بأنبائها المزعجة، وتبدد الاسترخاء الممتع الذي أحسست به للحظات وتساءلت: كيف أستطيع سماع هذه الأغنية الجميلة مرة أخرى؟! ألم يحدث لكم موقف مشابه عندما تستمع صدفة إلى أغنية جميلة حائرة لا تعرف اسمها أو اسم مغنيها وبعدها تمارس البحث الجميل عن هذا الطيف حتى تحصل عليه، والعثور عليه متعة تعادل مهمة البحث والسماع نفسه أحيانا، أعود لحكاية الشيخ زكريا أحمد، منذ سنوات لم يكن متعذرا علي استرجاع أي لحن مجهول للشيخ زكريا أحمد فلقد كان له رواة ومحبون أوفياء يتعصبون لفنه ويحتفظون بكل تسجيلاته ويحفظونها عن ظهر قلب ويرددونها في جلساتهم، كالمرحوم سامي خميس وأحمد حبشي، لكن صلتي بهم انقطعت منذ سنوات إما لانتقالهم للحياة الآخرة، أو لانصرافي عن الأحياء منهم بحطام الدنيا في عنبر الحياة، وانشغلت أنا بالسفر والإقامة في أمريكا، وانشغلوا هم ببدائع زكريا أحمد ومباهج الحياة الأخرى والحقيقية. كان فنانا عظيماً وإنسانا أعظم، كان يروى عنه أنه إنسان راضي النفس، متواضع، متسامح، فاجتمعت حوله مجموعة من الأصدقاء المخلصين، أضاؤوا حياته بالحب الصادق والوفاء الخالص، وبادلهم حبا بحب، ووفاء بوفاء، واستجابوا لطبيعته البوهيمية معهم، ونقل إليهم عدوى هذه البوهيمية فتأثرت بها شخصياتهم وحياتهم، تقليدا له أو استجابة لشطحاته المفاجئة، هل تصدقون أن الشيخ زكريا أحمد كان لا ينطق اسم أحد أصدقائه أو معارفه إلا مسبوقا بكلمة (سي فلان) اختصارا لكلمه سيدي؟ وهذه من عادة الفضلاء، أن يزكوا أصدقاءهم عن أنفسهم، فيقول أحدهم عن الآخر، سيدي فلان، أو سي فلان، إنكارا لذاته أو رفعة لشأن صاحبه، أنا رحت فين؟؟ ما لكم أنتم وزكريا أحمد، مصيبتي أنني أصبحت قناصا لقصص الأوفياء، قد تكون حساسية مصدرها الزمن، حيث أصبحت الحياة تعج بناكري الجميل، ومحترفي الجحود!! على ذكر الزمن، قابلت صديقا قديما لم أقابله منذ ربع قرن، شاهدت صلعته وكرشه وتكور جسمه، وبانت الكهولة في صدغيه وملامح وجهه، لكنه صار الآن من الأثرياء الكبار، حقق ثروة عجيبة، من التهام الأراضي وتحويلها إلى مخططات، دعاني لتطوير أرض بيضاء شاسعة كمشروع صحي، هربا من الضرائب الواقعة على الأراضي البيضاء، تأملته ببلاهة، ذهب ذلك الطفل الجميل الذي كان يسكنه، ذهبت تلك البراءة العبقة التي تجتاح الإنسان في عز الشباب، لقد ذكرني هذا الإنسان بطفولتي السعيدة رغم عراقيلها الدائمة، ومنها الحدود المادية للأشياء، وكذلك الجغرافية، الحب كان الأمل، كان ضوء الكوخ، الكون الكبير الذي لم أنتمِ إليه كمعادل لرومانسيتي أو واقعي، كنت أنتمي لهذا الكوخ لأنه الأجمل في مسيرتي التي بدأت معي بأغانٍ لم تنته حتى الآن، أناشيد طفولية، كبرت معي، وظلت الأقدر على النقاء، أنا طفل كبير، ودع الستين بكثير من البهجة (هذا الأسبوع)، هل تصدقون لو قلت لكم إنني لا أخشى مرور الأيام؟ كل ما أخشاه هو أن أعيش حياة خالية ممن أحب أن يمر الوقت بدونهم، فأنا لا أحس بمرور الزمن! بالعكس أحبه أن يمر، أن يتجاوزني بمسافات وآفاق لأعود وأقبض عليه في (حصالة التوفير) إنها في الحقيقة الحصالة التي أحب دائما أن أكسرها، ليتبعثر فخارها نثرات في كل اتجاه، ويعود إلى تراب الأرض مرة أخرى، ليجبل ويشوى ويتفخر من جديد، إنها لعبة وهدف وحل لجميع الأشياء، الصعوبة الحقيقية أن نتحول فجأة إلى ورقة نقدية، وأن تصبح العلاقات بين الناس كاونتر مصالح في مدخل بنك فسيح لا أبعاد له، وأن نغلف علاقاتنا بسوليفان الحب والشوق والرغبة، ونحن كاذبون، ويا نعمة النسيان!!

كاتب سعودي


Fouad5azab@gmail.com