-A +A
علي بن محمد الرباعي
لم تدخل (السياسة) ضمن الثوابت الشرعية إلا تجوّزاً، كما أنها ليست من معلوم الدِّين الضروري، بحكم أنها تأسست في قرون متأخرة على قانون مراعاة العرف وتغير الزمان والمكان والأحوال، وإن لم تقدم حلولا ناجعة ومستدامة للشأن الإداري للحكومات المتعاقبة، ومفردة الحكومة أصدق تاريخياً من مصطلح الدولة الأحدث، والمجتمعات قبل ظهور الدول عاشت في ظل الإمبراطورية، والسلطنة، والممالك.

ولا بأس بطرح أسئلة تشرك القارئ في التفكير بالإشكالات التاريخية، للحد من اتهام الكاتب بفرض وجهة نظر فردية على قناعات الأغلبية، ولإتاحة الفرصة للتحاور حول شأن هام، علماً بأن مناقشة الماضي مثل مناقشة المستقبل مشوبة بحذر العالق بين تمكن الغيبة واستحالة المشاهدة.


ونحن نقرأ القرآن الكريم لأول مرة بوعي وتدبر نجده يقدم نماذج لملوك وحكام من الأمم السابقة، وفي الوقت الذي نتوقع أن يرد توصيف لمهام الرسول عليه السلام لا نجد سوى النبوة والرسالة والبلاغ وأحياناً تتم مخاطبة خاتم الأنبياء باسمه المجرد (وما محمد إلا رسول)، ولو حاول البعض تأصيل الدولة الإسلامية منذ عهد النبوة اعتماداً على آية (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) فإن الدليل لا يرقى لمرتبة الاستدلال، والمقام الأقرب مقام تقاضٍ يتحاكم فيه الكتابيون إلى نبي.

وفي رسائل الرسول عليه السلام للملوك والساسة كان يبدأها بعبارة من محمد رسول الله. وعندما ساومته قريش على ترك مهمته الربانية وتعويضه بالملك وأجمل النساء قال «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته».

ولعلنا نتوقف عند تعامل الصحابة مع النص وفهمهم له، بدءا من قول النبي عليه الصلاة والسلام «مُروا أبا بكر فليصل بالناس» ألم يجعلوه مُرجّحا لكفة أبي بكر عندما وقع الاختلاف على أسماء مرشحي الخلافة وقالوا «كيف لا نرضى لدنيانا من ارتضاه الرسول لديننا»، أي أن النبي عليه السلام لم يصدر عنه ما يشير لارتضائه للدنيا، فاختاروه وأطلقوا عليه «خليفة رسول الله» لأنه لم يكن في زمن النبوة نظام دولة يحدد الخلفاء والنواب والمهام، فالبيئة العربية قائمة على ذهنية شيخ القبيلة وكبير العائلة.

لو كانت هناك صيغة شرعية للحكم متفق عليها فهل سيختلف الصحابة بمجرد وفاة الرسول عليه السلام، وهو ما سوّغ لهم أن يقتتلوا لاحقاً. ما يؤكد عدم توفر وصفة تداولية جاهزة كما يتصور البعض. والواقع أنه لا وجود لنظام معتمد وموحَد عبر التاريخ القديم حتى عند غير المسلمين إلا في الذهن العاطفي الذي يتمسك بإلباس الدين لبوس السياسة، علماً بأنه ليس بالعاطفة وحدها نفهم مقاصد الدِّين.

لم يرد في القرآن مصطلح (الدولة) برغم خطورته وأهميته في الفكر الإنساني، والأرجح أن سبب غيابه يتمثل في قصدية اعتماد البشر على أنفسهم في تسيير أمور حياتهم وابتكار ما ينظّم شؤونهم بما يناسب كل عصر ويلائم مستوى وعي الشعوب، والله زود العقل بخصائص تعينه على حُسن الترتيب والتجريب واختيار الأفضل من المتعدد، مع الاستعانة بالنصوص وإعمالها بحسب مفهوم عصري، خصوصاً أن هناك أسباب النزول الخاصة، والصيغ الخبرية غير الملزمة، والاعتبار بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

لو تخيلنا أن هناك دولة قديمة منذ الهجرة النبوية فلن تكون إلا مدنية رحمة بمكونات المجتمع في ظل التنوع والاختلاف، والوثيقة النبوية تعطي إشارات مبكرة لحفظ حقوق الأقليات في المجتمع ما يدهش القارئ بتلك الحضارية المبكرة حين يكتشف توظيف جماعات معاصرة للنصوص الدينية لتأصيل ثقافة العنف شرعاً والتطاول على معصومين باسم الإسلام وفق فهم حزبي ضيّق لتحقيق مكاسب دنيوية وتشريع الفساد تحت مظلة السعي لإقامة الخلافة التي لا سند رباني لها.

كيف يوفِّقُ الذين يُلحقون بمهام النبوة والدين مسؤوليات الدنيا من الملك أو الرئاسة؟ ألا يصطدمون بالمروي من ذهاب الصحابة للسقيفة وتداول الأسماء وإجراء اقتراع على شورية يراها البعض مثالية ويراها آخرون واقعية استدعى الموقف ساعتها حسماً فورياً؟

هل نستوعب توجه مجموعة من الصحابة لاختيار أبي بكر وتسميته خليفة باجتهاد شخصي دون تنصيص على الخلافة أو الخليفة، خصوصاً أن الأصوليين يرون قول الصحابي وفعله من قبيل الرأي الشخصي والاجتهاد القابل للصواب وللخطأ.

ألم تجنح بعض القوى للدهاء الذي لعب دوره؟ برغم منافاته لأخلاق الإسلام لكنه أبيح بحكم التنافس التاريخي بين مكونات قبلية وأُسرية، ومتى خلت الحقب المتوالية من الاستعانة بالمقدّس وتوظيف النصوص لشرعنة مراحل برغم إثارتها جدلا بظنيّة ثبوتها ودلالتها؟

لماذا لم تسلم القرون المفضلة من الاغتيال السياسي المبرر بالنص تارة وبالتاريخ تارة وبالظروف تارات أُخر؟ ولماذا لم تُعصم من استباحة مال ودم المناوئين بذات النص حمّال الأوجه؟

من هم الذين تبنوا مصطلح الخلافة في عصرنا؟ وما حجم الكوارث التي ارتكبوها وجنوها على المسلمين تحت بيرق له عنوان برّاق وفي هجير حملته سراب خادع يحسبه الظمآن ماء، لينكشف لنا توحش المنادين بدولة الخلافة وتعطشهم للدماء والتنكيل بالعُزل وسبي الأبرياء واستحياء النساء والولدان والصبايا ما يثير الكثير من الأسئلة حول تاريخ المسلمين الذين منه ما جمد بسبب أهله ومنه ما تطور بفضل العقلاء الذين انتسبوا إليه، كما أن منه ما لحقه التشويه بفعل الشانئين.

الوحي تضمن المجمل وترك البيان والتفصيل في بعض القضايا للرسول عليه السلام، الذي لم يتأخر بيانه عن وقت حاجة، ومنه عدم تنكره للعُرف الاجتماعي بل منحه مكانة لائقة وموجبة لاحترامه طالما توافق مع مكارم الأخلاق ومصلحة المجتمع ورضى الناس، ولذا نص الفقهاء على قاعدة (العرف معتبر).

ليُّ اللسان بالمصطلحات الشرعية المسيّسة لنحسبها من الكتاب وما هي من الكتاب تكلّف أيديولوجي في غير محله، فالعلم والمعرفة والتمدن تصطف بجانب مدنية الدول وتعزز أنظمة الحكم التي أقرتها المجتمعات وطورتها المؤسسات بالتجربة وتراكم الخبرة.

الأديان جاءت لحل مشكلات لا لصناعة أزمات، فمن أين نبعت كل هذه الانقسامات والخلافات الحادة؟ هل مبعثها النصوص أم الشخوص ؟ وما وجاهة تحميل النصوص مسؤولية خلاف ترسّخ بالتقادم؟

لماذا لم تُكسبنا النصوص سمت التدين العاف عن الدماء والأموال والمناصب ومنازعة الأمر أهله؟

كاتب سعودي

Al_ARobai@