-A +A
د. صدقه يحيى فاضـــــــل
صدق من قال: إن الأفكار أنواع وضروب شتى، بعضها لا يستحق حتى أن يذكر. وأحسن من قال: إن كل إناء ينضح بما فيه (من خير أو شر)، ومن قال: فاقد الشيء لا يعطيه. معاني كل هذه العبارات والأمثال الحكيمة تتوارد على الذهن، تلقائياً، عندما نستمع، أو نقرأ، كثيراً مما يسمى بـ«تحليلات سياسية» للأحداث والوقائع الراهنة، في بعض وسائل الإعلام، في الوقت الحاضر. وحتى في الماضي، كانت هذه الظاهرة حية، ومزدهرة وملعلعة. ولكنها تزايدت في الفترة الأخيرة، وأذاها، وتأثيرها السلبي، تفاقم بالتالي. وجانب كبير من مضمون هذه التحليلات يثير الغضب، والازدراء، وينم عن فكر هدام مغرض. يكفي لإسقاطه احتواؤه على قدر كبير من الكذب، والافتراء، والتلاعب بـ«الحقائق». واختصاراً، يشار إلى ذلك الفكر بصفة «المضلل»، وحسب.

ويمكن تعريف «التحليل» (Analysis) بأنه: عملية تطبيق إجراءات فكرية منظمة معينة، على المعلومات المتوفرة للمحلل عن موضوع ما، بهدف معرفة ما يمكن أن تعنيه تلك المعلومات. أو هو: عملية تنظيم معلومات معينة... تمهيداً لعمل واحد أو أكثر من العمليات التالية: الوصف، التقييم، التنبؤ، التوجيه.


****

ويمكن تقسيم التحليل بصفة عامة، والتحليل السياسي بصفة خاصة، إلى عدة أقسام. فهناك معايير عديدة، يمكن بناء على كل منها تقسيم التحليل. ومن ثم يمكن أن تتعدد نتائج التقسيم، وتتعدد بالتالي أنواع التحليلات. فبناء على مدى علمية التحليل، يمكن تقسيم التحليلات إلى قسمين رئيسيين: تحليل علمي وتحليل غير علمي. التحليل العلمي يقوم على اتباع صحيح للمنطق ولمناهج البحث العلمي. ولا يصبح التحليل علمياً إذا كان غير قائم على منهج بحث علمي ومنطق سليم، يعطي للتحليل صفة «العلمية» والمصداقية. وهناك ثلاثة أنواع لـ«المعرفة»، هي:

- المعرفة البديهية: المعرفة المتوفرة لدى الإنسان العادي، التي يكتسبها نتيجة لعيشه في هذه الدنيا.

- المعرفة الفلسفية: هي المعلومات البديهية، زائداً المعرفة المنطلقة من «مقدمات» ومسلمات فكرية معينة للمحلل.

- المعرفة العلمية: أي المعرفة المكتسبة القائمة على التجريب العلمي الموضوعي المتواتر.

****

وبناء على أنواع المعرفة، يقسم «التحليل» إلى ثلاثة أنواع رئيسة، هي كالتالي:ـ

- التحليل البديهي: وهو التحليل القائم أساساً على المعرفة البديهية لشخص أو أشخاص معينين في جانب معين. وفي مجال السياسة، هو التحليل القائم أساساً على المعرفة السياسية البديهية للمحلل... سواء كان متخصصاً في دراسة السياسة، أو غير متخصص. أي على معرفة بالواقع (كما يتصوره المحلل) نتيجة لمتابعة ذلك الواقع، متابعة عادية. وتنتشر هذه التحليلات في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية العادية، وغيرها من وسائل الإعلام، في شتى البلدان.

- التحليل السياسي الفلسفي: وهو التحليل القائم أساساً على المعرفة الفلسفية للمحلل. وفي مجال السياسة، هو التحليل القائم على المعرفة الفلسفية السياسية للمحلل... سواء كان متخصصاً في دراسة السياسة أو غير متخصص، ورؤيته للواقع المعني، ولـ«ما يجب أن يكون» عليه ذلك الواقع. ويعتمد مدى إقناع هذا التحليل على مدى منطقية المقدمات التي يقوم عليها.

- التحليل العلمي: وهو التحليل القائم أساساً على المعرفة العلمية (نظريات ومفاهيم علمية معينة) وهو الأكثر مصداقية وصحة. وفي مجال السياسة هو: التحليل القائم على المعرفة العلمية السياسية للمحلل. إذ غالباً ما يصدر مثل هذا التحليل عن المتخصصين في دراسة السياسة. فهو تحليل لواقع معين، يكتب أو يقال بالاستناد لنظريات وأطر علمية سياسية معينة. إنه الرؤى القائمة على استخدام سليم لمناهج البحث العلمي. ويندرج ضمنه التحليل الوصفي الموضوعي، القائم على حقائق مجردة. ومكان هذا النوع من التحليلات السياسية أساساً هو الدوريات العلمية البحثية السياسية.

****

وهذا التقسيم للتحليلات السياسية يفسر قيام الكثير من المتعلمين والمثقفين، المتخصصين في مجالات غير سياسية، بكتابة ونشر تحليلات سياسية متنوعة. فأي متعلم، يمكن أن يكتب تحليلات بديهية سياسية، وكذلك تحليلات فلسفية سياسية. أما التحليلات العلمية السياسية، فلا تصدر (غالباً) إلا عن متخصصين وعلماء في السياسة. ومن المهم الإلمام بهذه الأنواع ومعرفة طبيعة وخصائص كل منها.. ليمكن التمييز بين أنواع الأفكار والأحاديث والمقالات السياسية... ومدى «مصداقية» وصحة كل حديث.

إن معظم التحليلات السياسية المضللة تقوم على فكر سياسي بديهي فاسد ومغرض. ويمكن أن تكون هذه التحليلات صحيحة، وعفوية، وصادقة، لولا اتسام معظمها (في بعض أرجاء العالم) بالجهل، أو النفاق، أو الانتفاع، أو سوء النية والطوية، أو كل ما ذكر.

ونختم بإيراد مثال واحد شهير للتحليلات السياسية المضللة، التي لا تحصى لكثرتها بمنطقة الشرق الاوسط: تحليلات محللي صدام حسين السياسية، أثناء غزو القوات العراقية للكويت، وتأهب القوات الدولية المتحالفة، بقيادة أميركا، لتحرير الكويت من الاحتلال الصدامي آنئذ. كان أولئك المحللون يرددون، في كل وسائل الإعلام العراقية وغيرها، قولهم: إن «أم المعارك» قادمة، وإن الجيش العراقي سينتصر فيها، وستستمر الكويت محافظة عراقية...؟!