-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لم تكن كنساس ذات يوم جميلة كما كانت اليوم، في السماء رأيت عناق شعاع وشعاع، وفي الأرض كان الميسوري ينعم بهدوء، والسماء ترتدي قميصاً من شمس، أحب في هذه الأجواء أن أذهب إلى السوق الشعبي المكسيكي، سوق يعج بمطاعم وحوانيت متنوعة، ومقأتنفاهٍ ضيقة لا تتسع إلا إلى الأرواح الكبيرة، أبواب مطلية بألوان فاقعة، وكل باب يروج لسلعته، المنطقة تعج بالبيوت المتواضعة، لا يُرى ما بداخلها، سوى قطع الملابس المتناثرة على حبال الغسيل، واجهات الغسيل ترفرف كأنها قطع ملونة أشبه بالأعلام التي قد تكون رفعت من أجل احتفال ما، كأنهم يخفون شيئاً، لا يريدون عشاق الحي كشفه، كي يبقى شيئاً من الحب مربوطاً بأغلال المجهول، أتردد بين الفينة والفينة على مقهى حميمي في هذا السوق، يقدم قهوة تجعل الزمان يعلو على المكان، العاملون هنا كلهم قدموا من بلد واحد، مهاجرون مكسيكان، طاب لهم المكان، فاستوطنوا هذه المنطقة منذ الأربعينات الميلادية، مجموعة بسيطة مختلفة الأشكال والألوان، تحسب أن قلوبهم مشتتة وأنت تراقبهم، ولكنها موصولة بعضها ببعض، تواصل البحر بالبر، تواصل النبات بالأرض، تواصل الجنين بالرحم، كنت أجلس هناك من دون أن يثير اهتمامي من يحضر أو يغيب، القهوة والغليون والكتاب، خلطة نورانية صوفية، تجعلني إنساناً مفصولاً عن المحيط الذي أكون فيه، رفعت بصري عن الكتاب على أثر صوت زحزحة المقعد المجاور لي، كانت المسافة بين المقعدين نحو ذراعين، اصطدمت عيناي، بوجه عملاق أبيض، وجهه متكلس، عليه عبوس، منفوخ كطاووس، ضخم الجثة، يذكرني بالثور الذي سأله الضفدع يوماً عن سبب ضخامته ونفخته، متمنية لو يقول لها السر لتنال منه نصيبها وتتضخم وتنتفخ مثله، ليجيبها السر بسيط والأمر هين ما عليك إلا أن تنفخي نفسك! تقدم منه النادل المكسيكي بعرجته التي تعودت رؤيتها، وسأله بأدب جم إن كان هناك شيء يرغب أن يحققه له؟ أجابه الرجل الأبيض باستخفاف واستعلاء وفوقية، لا أريد سوى أن تغرب عن وجهي لأنك تحجب الشمس القادمة من النافذة عني، اذهب واستدعي النادلة الفاتنة التي تشرف دائماً على خدمتي! ولم يتوقف بل أكمل بفظاظة، بالمناسبة ماذا تفعل هنا أيها الكسيح، اذهب إلى بلدك!

كنت أراقب حركات المكسيكي بتتابع، تحولت عيناه الصغيرتان إلى براكين من الغضب، كان يحرك أهدابه وهو ينظر إلى الرجل كالمدية، بحيث شعرت بأنه عما قليل سيشهر مدية حقيقية ليقطع لسان الرجل، قال للرجل كلمات كانت تخرج من عمق حنجرته، وتسقط كضربة قاصمة على مسمع المحيطين، أنا أمريكي مثلك هل تعرف هذا، رد عليه الأبيض بسخرية وبسمة صفراء على شفتيه، لقد تم تجنيسك لتنظف لنا المراحيض!


حك المكسيكي إحدى عينيه بظهر يديه، كانت رقبته تخينة وكذلك أصابعه، تضخمت رقبته أكثر وأكثر، وبحركة هستيرية خارجة عن السيطرة، أمسك بمسدس أخرجه من الجيب الذي دسه فيه، ثم أطلق النار على قدمي الرجل، انهار الرجل على الأرض.

قال المكسيكي كلمات لم أفهم منها شيئاً، وهو يأخذ مكانه على أحد الكراسي ويخرج سيجارة منتظراً قدوم رجال الأمن والإسعاف، وكأنه انتهى من رمي حجر إلى ركن مجهول، لسعة العقرب ليست لحقد مسبق لديها، ولكن ذلك ما تقتضيه طبيعة الدفاع عن النفس، مت أكثر من ميتة وأنا متردد بين تصديق عيني وتكذيبها، اجتاحني صمت لم أعهده، الخوف يعلمك أن تكون راوياً جيداً، وجباناً لا يشق له غبار، ظللت مسمراً في مكاني، في أوقات الخوف، لا تطابق لغة الجسد المقاصد العميقة الرابضة في زوايا النفوس، بذلت جهداً لأتجنب نظرات الرجل المكسيكي، كنت أنظر إليه بشكل مائل أو بطرف عين واحدة، حتى لا أترك الانطباع بأني خائف، الخوف محرم على من يريد البقاء، لم أعد نفسي، اشتقت إلى رحم أمي، الخوف يحول الإنسان إلى طفل، شعرت أن دمائي تتخثر في أوردتي كما لو أنني لم أعد أتنفس، لحظات وكان رجال الأمن يقتادون المكسيكي دون مقاومة، ورجال الإسعاف يحملون الرجل الأبيض كعصفور بلا جناحين سقط من علو على ساقيه مجمدة، الإنسان دون إنسانية قبول الآخر، حشرة معدة للسحق حتى لو كانت بضخامة فيل، عادت لي الحياة مرة أخرى، وخرجت منطلقاً إلى الخارج، فإذا بالنادلة تهرول ورائي، وتذكرني بامتعاض أنني لم أدفع ثمن فناجين القهوة التي شربتها، اعتذرت لها قائلاً إني كنت شارد الذهن، لا أقصد سوءاً، وقبلت الاعتذار كرهاً، وفي عينيها آثار الشك، إذ إني كنت أسير كمن يريد مغادرة المكان خلسة، اتجهت بعد أن دفعت لها ما تطالب به، إلى حصاني الحديدي وأنا أردد، شكراً أيها العنصريون، فلقد حولتم أمريكا الجميلة، إلى عملاق، مضطرب، عنصري، ولرجل بلا نسل ينكر من تبنى من أبنائه، وخلطتم البقاء بالفناء، في ثنائية أبدية تلف الحياة والأحياء.. قصة أهديها «للعنصريين فقط”!