-A +A
علي بن محمد الرباعي
أرجو ألا يأتي يوم تُزدرى فيه الثقافة وتُنعت أخلاق فرد أو مجموعة غير سوية بأخلاق مثقفين على سبيل الاستخفاف أو التهوين وعدم المبالاة، شأن عبارات كلام جرايد، ودردشة مقاهي، وحكي مجالس.

الثقافة ليست عباءة توضع على دمية، ولا بدلة يستعرضها لابسها مع مسوقي الأزياء، ولا (مانيكان) مكسوة في فاترينات محلات بيع الملبوسات، ولا هي حذلقة لفظية ولا عك لغوي ولا هلس كلامي، بل تمثل مبادئ وقيما وأخلاقا تفرض على المجتمع بأن يصف المثقف بكائن محترم.


يطلق على المتصف بالصفات العليا (مُهذّب)؛ والتهذيب جزء من مهمة المزارع مع أشجاره يشذب ويهذب ليغدو بستانه متناسقا وجذابا ومثمرا، والمنتمي للثقافة بوعي يهذب نفسه الشرهة بطبعها والأنانية في ذاتها بعدم الاستجابة لنزواتها وتحجيم نزوعها للطيش والظلم والعدوان وقلب الحقائق.

تتفاوت قدرات المثقفين في إثبات وجودهم وحضورهم الثقافي فهناك من يمتلك مواهب فطرية، وهناك المتشرب من معين أسرة نقية، وهناك من أكسبته المكارم سلالته الاجتماعية، وهناك عصامي نجح ثقافيا بالتعلم والدربة والحراك المعيشي.

المثقف يخضع شأن غيره لآلية المدخلات والمخرجات، بدءًا من الطعام، ومرورا بالقراءة والممارسة والمعاناة والضغوطات والإشكالات الاختيارية والإجبارية، ما ينعكس على نفسيته وسلوكياته ومشاعره، والمختبرات والمعامل تقدم نموذجاً بمركباتها، فالمدخلات المتجانسة مع ما تضاف إليه مخرجاتها آمنة، والمركبات المتنافرة تؤدي للحرق والانفجار.

يمثل النبي عليه الصلاة والسلام نموذج الإنسان السوي والكامل حيث جاءت النبوة في محلها ونالها مستحقها بشهادة ألد مناوئيه وحساده من قومه وغيرهم، فهو الأشرف نسباً والأقوم خلقا والأعف لساناً والأطهر قلباً والأعلى يدا والأصح بدناً والأسلم نفساً والأتقى روحا والأرقى عقلاً والأنقى جيناً، فلما جاءته النبوة كانت إضافة سماوية ومنحة إلهية زادته شرفاً إلى شرفه ومكانة إلى مكانته.

المثقف النبيل بأصله ينعكس نبله على جميع مكتسباته، ويتجلى في تحليه بأخلاق آسرة، أما المرهق بغموض هويته فتختلط عليه الأوراق ويدخل في صراع عدمي يُجذّر فشله في تجاوز العُقد والنقائص ويُعذّر عليه تفوقه ونجاحه في مشاريعه الإبداعية، فيسترقّه النزق والضجيج والصخب ونبش الأراشيف وتمرير الدسائس وأستعير هنا قاعدة أصول الفقه (الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً).

المثقف جزء من واقعه وعندما يطالب بالمثالية فلا بد أن يكون مثالياً. لا يزايد على السلطة والمجتمع بالمطالبة بالعدل والتنظير حوله وهو ظالم لنفسه وأسرته الصغيرة وكل من يتعامل معه. التعاطي مع قيمة العدل لا يتجزأ.

المثقف الموضوعي لا يحمّل إخفاقه في مد الجسور على منافس أو وسيلة فيحسد ويحقد ويرغي ويزبد متجاهلا أنها ليست نهاية العالم، فلربما كان التأسيس خاطئاً أو الأدوات بالية أو نوايا الإخلاص الإبداعي غير متوفرة، كما أن إنصاف الزمن يتأخر أحياناً وهناك كتاب كبار على مستوى العالم لم ينالوا شهرتهم ولا اعترافا إلا بعد رحيلهم.

جاء في محكم الذكر (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) والنبي عليه السلام عد مجاهدة النفس جهادا أكبر كون نزوع النفوس البشرية للصدارة سبب تعالي الطفح الطيني على التربة الصالحة لولادة الإخضرار وتجاوز الدخان المتطاير موقد جمر الغضى.

المثقف المتصالح بالثقافة مع الحياة والناس يتمتع برضى وإيجابية ويظل محل تقدير وامتنان كل من عرفه، فيما المعذب بتأنيب ضميره بسبب سوابق تلاحقه منذ مطلع حياته بقدر ما يكتسب من مزايا وهدايا تجده متسخطاً ومتأهباً للشر وشتم الطير في الهواء والسمك في الماء.

كاتب سعودي

Al_ARobai@