-A +A
هاني الظاهري
شدني خلال متابعتي للاحتجاجات الأمريكية وما صاحبها من عمليات نهب وتخريب مشهد سيدة أمريكية تترجل من سيارتها الفارهة التي لا تقل قيمتها عن 50 ألف دولار لتشارك في نهب متجر ملابس بعد أن حطم واجهته الزجاجية بعض الملثمين من مثيري الشغب.

السيدة المشار إليها تظهر في آخر المشهد وهي تخرج من المتجر حاملة بيديها حذاء لا يساوي في أفضل الأحوال 100 دولار، أي أنها ارتكبت جريمة سطو ونهب قد تقضي بسببها سنوات في السجن مع أنها غير محتاجة لما سرقت، وهي مسألة تعني أنها إما مريضة بداء السرقة وهذا احتمال ضعيف، أو أنها انزلقت إلى موجة اللاعقلانية نتيجة الاندماج في القطيع وغياب القانون وهذا هو الأرجح والذي يمثل ظاهرة معروفة يسميها المفكر العربي الراحل «ممدوح عدوان» ظاهرة «حيونة الإنسان» أي تحول الإنسان إلى حيوان وحشي مجرّد من الوعي.


وقبل عدوان بنحو مائة سنة تناول المفكر والفيلسوف الفرنسي الشهير غوستاف لوبون في كتابه المعروف «سيكولوجية الجماهير» هذه الظاهرة، مشيراً إلى أن الجماهير يقودها اللاوعي والتحريض؛ فأعمالها واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي لا العقل، إذ إن الفرد المنخرط ضمن الجمهور عبد للتحريضات التي يتلقاها، والفرد المعزول يمكنه أن يخضع لنفس المحرّضات لكن عقله يتدخّل ويبيّن له مساوئ الانصياع لها، وبالتالي لا ينصاع، أي أنّ الفرد المعزول يمتلك الأهلية والكفاءة للسيطرة على ردود فعله، في حين أن الفرد المنخرط في جمهور لا يمتلكها.

أما المفكر العراقي الراحل علي الوردي فيذهب إلى أن «حيونة الإنسان» نتاج مسألة أعمق من الانخراط في جمهور يقوده اللاوعي، إذ يرى أن الإنسان بطبعه «حيوان وحشيّ» لكنّه مدنيّ بالتطبع، وما مظاهر التحضر إلا غطاء يستر به طبيعته الأصلية.

وما زلت أتذكر حتى اليوم عبارة قرأتها قبل نحو 15 سنة ورسخت في ذهني رسوخاً عجيباً رغم سوء ذاكرتي.. عبارة جاءت على لسان إحدى شخصيات رواية «اسمي أحمر» لمؤلفها التركي «أورهان باموق» الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 2006م ونصها: «الأبرياء أبرياء لأن فرصة ارتكاب جريمة لم تسنح لهم»!

البعض من الأصدقاء المتابعين للأحداث في الولايات المتحدة اليوم انشغلوا بعقد مقارنات بين غوغائية وتوحش بعض المحتجين الأمريكيين وبين تحضر شعوب أخرى، وهي برأيي مقارنات ساذجة وشوفينية لا قيمة لها، فالإنسان هو الإنسان في أي زمان ومكان، والحد الفاصل بين التحضر والتوحش هو غياب القانون والانزلاق اجتماعياً ضمن جماهير غوغائية منفلتة تنصهر معها شخصية الفرد ليتحول إلى أداة بلا عقل، والأمثلة على ذلك من التاريخ لا حصر لها.

كاتب سعودي

Hani_DH@